ليس في لبنان إمكانيات لتحاشي الآثار البيئية والاقتصادية الناجمة عن السير قدما في خيار التنقيب عن النفط والغاز في لبنان. ووزارة البيئة حتى الآن غير مؤهلة لأخذ دور المراجع والمراقب ولا لدراسة الأثر البيئي الاستراتيجي لهذا الخيار الكبير والخطير على البيئة اللبنانية.
قوانين الحماية المحلية لم تنجز وهناك مخاوف من عدم الالتزام بها اذا صدرت في ظل ما هو معلوم ودارج عالميا من «قوة الشركات الملتزمة وضعف الدول»، والقوانين الدولية والاقليمية بحاجة الى تحديث لان اتفاقية برشلونة لحماية المتوسط التي أبرمت العام 1976 والمعدلة العام 1995 لم تلحظ قضية التنقيب عن النفط والغاز وآثارها، وهي تحتاج الى تعديلات جديدة.

وتجارب العالم في التعامل مع كوارث نفطية لا تشجع أبدا في بلد مثل لبنان، لم يستطع ان يعالج يوما تسربات نفطية صغيرة اثناء تفريغ البواخر لمعامل وخزانات على الشاطئ، فكيف مع كوارث تسرب كبرى اثناء التنقيب او الاستخراج والنقل.. الخ.

المسوحات للتنوع البيولوجي لم تحصل ولا تمت دراسة آثار هذا الخيار على باقي القطاعات لا سيما الانتاجية منها ولا على حال صغار الحرفيين والمزارعين والصيادين ولا على السياحة التقليدية والبيئية عامة… الخ.

هذه القضايا وغيرها يفترض ان تناقش اليوم في وزارة البيئة انطلاقا من دراسة أولية أعدتها الهيئة اللبنانية للبيئة والانماء بالتعاون مع مؤسسة فريديريش ايبرت عن الآثار البيئية والاقتصادية والاجتماعية لخيار التنقيب عن النفط والغاز في لبنان.

بالإضافة الى مناقشة إمكانيات ودور وزارة البيئة في وضع دراسة استراتيجية للأثر البيئي لهذا الخيار.

صحيح أن بعض الاجتماعات كانت قد عقدت بين هيئة إدارة قطاع البترول اللبنانية ووزارة البيئة، إلا ان هذا النقاش لم يفتح على العموم ولا صدرت مقررات واضحة باقتراح قوانين جديدة، أو إجراء تغييرات ما في هيكلية الوزارة للمواكبة واستحداث اختصاصات أو دوائر مختصة… ولا تم الإعلان عن خطط معينة مواكبة لهذا الخيار.

حكي عن «دراسة الأثر البيئي» لخيار التنقيب عن النفط والغاز واستخراجه، لكن لم يفهم شيء عن المقصود بذلك.

فما المقصود بدراسة الأثر البيئي، وأين تبدأ هذه الدراسة وأين تنتهي؟ بعد تبني الخيار أم قبله؟ وماذا تشمل؟ هل تشمل القضايا البيئية أم تمتد إلى التأثيرات على كل القطاعات التي تتقاطع مع البيئة بشكل أو بآخر؟

فالأثر البيئي لا يقاس فقط في الأماكن التي يمكن ان تحصل فيها عمليات التنقيب والاستخراج والتكرير أو النقل… ولا يتعلق فقط بقضايا التلوث النفطي المحتمل في الأرض والبحر والجو، بل يتعلق ايضا بأثر هذا القطاع على باقي القطاعات.

ولعل أول مأخذ على هذا الخيار انه لم يأت من ضمن استراتيجيا وطنية للتنمية المستدامة تندرج تحتها استراتيجيات للطاقة والمياه ولباقي القطاعات.

فلو اخذ معيار الاستدامة، كمعيار استراتيجيي (رقم واحد) في اختيار مصادر ونوع الطاقة التي يفترض الاتكال عليها في لبنان، لتم احتساب النفط والغاز في أسفل سلم المصادر المحتملة، كونه مصدرا غير متجدد وغير نظيف، قياسا إلى الشمس والهواء وقوة جريان مياه الانهر والسواقي او حركة الموج… الخ.

تقترح الدراسة في التوصيات التي خرجت بها منهجين او خطتين، واحدة رافضة لهذا الخيار بالمطلق وأخرى تتعامل معه كأمر واقع وتطالب بإجراءات محددة لتحصينه. الخطة الأولى تقضي بالتحفظ جدا عن اعتماد خيار التنقيب عن النفط والغاز في الأصل، مع توقع أن تصبح الموارد لعنة وليس نعمة على البيئة والناس والاقتصاد البيئي… واذ ظهرت استحالة كبيرة في جمع مجموعات كبيرة تؤسس لحملة رفض كلية لهذا الخيار…

تم اقتراح الانتقال الى الخيار الثاني المسلم بالأمر الواقع، أي بعد ان أصبح هذا الموضوع خيارا للدولة بكل مكوناتها المتناقضة وأملا للناس مع كل احباطاتهم وثقافتهم المشوهة… وأصبح الهم العملي في كيفية التخفيف من الآثار المحتملة بعد اعتماد هذا الخيار.

بحسب الدراسة، لم يأخذ خيار التنقيب عن النفط والغاز بالاعتبار التجارب العالمية في هذا المجال، سواء في البلدان المتقدمة أو تلك النامية. إن من ناحية التشريع أو من ناحية ادارة المخاطر وكيفية تحاشيها.

فاكبر دول العالم كالولايات المتحدة الأميركية، أعادت النظر بتشريعاتها المتعلقة بالتنقيب عن النفط والغاز اثر الكارثة التي حدثت العام 2010 في خليج المكسيك مع كبريات الشركات البريطانية (البريتش بتروليوم)، وقد تأخرت كثيرا لكي تستطيع ان توقف الكارثة بالرغم من امتلاكها أكبر الإمكانات في العالم، ولا تزال التقارير عن الآثار التي تركتها هذه الكارثة تتوالى كل سنة للتأكيد على فداحة هذه الآثار التي لا تمحى على ما يبدو.

هذا في الدول الكبرى ومع شركات عالمية شهيرة، فما ستكون الحال مع بلد نام وصغير مثل لبنان، ليس لديه خبرات وقدرات في التشريع والإدارة ولا في التدخل والمعالجة… في حال حصول مشاكل او حوادث أو كوارث؟ وقد ظهر ضعفه وعجزه في الادراة اثر عدوان تموز 2006 عندما انسكب خزان فيول محطة الجية (لتوليد الكهرباء) في البحر، حيث حصل الإرباك في كيفية ادارة هذه المشكلة كما حصل تأخر وتعثر كبيران في المعالجة لناحية التدخل السريع ونقص التجهيز وعدم وجود هيئة طوارئ وأجهزة مجهّزة مدرّبة وجاهزة… ولا تزال بعض آثار هذه الكارثة مخزنة في مستوعبات لا نعرف كيف نتعامل معها.

لا دراسة لإمكانات الطبيعة
كما لا يأتي هذا الخيار بعد دراسة كل إمكانات الطبيعة اللبنانية مع استراتيجيا لضبط استهلاك الطاقة وترشيد استخدامها في كل القطاعات ومراقبة الاتجاهات والاتفاقيات العالمية المتعلقة بتغير المناخ ودعم الطاقات المتجددة وإمكان انخفاض أسعار الطاقات المتجددة مع الإمكانات الكبيرة في تقدم تكنولوجياتها لتشكل البديل الأرخص والأكثر استدامة.

كما لم تدرس كفاية بعد اثر هذا الخيار على الاقتصاد عامة وعلى الكثير من القطاعات التي ستتأثر سلبا من استخراج الغاز والنفط، بالإضافة إلى إمكانية استفادة الشركات على حساب الدولة وتحويل هذه «النعمة» الى نقمة والى مادة نزاع جديدة بين الافرقاء، (ظهرت طلائعها في النزاع على وزارة الطاقة وفي طريقة التلزيم) نحن بغنى عنها.

تؤكد الدراسة ان المشكلة الاولى هي في كيفية تحديد مفهوم الاثر البيئي، اين يبدأ واين ينتهي؟ مع ميل لكاتب الدراسة الى ان يبدأ في اصل الخيار، اي في دراسة ما اذا كان هذا الخيار يأتي من ضمن استراتيجية بيئية اكبر تحدد الامكانيات المتوفرة في الطبيعة اللبنانية لتوليد الطاقة غير النفط والغاز.

كما تتخوف الدراسة من قوة الشركات وضعف الدولة بالإضافة الى ضعف قوى المجتمع المدني. بالاضافة الى المخاوف من انعكاسات هذا الخيار على قطاعات اقتصادية اخرى، لا سيما تلك الانتاجية منها بالاضافة الى الاثر على الثروات البحرية التي يعتاش منها كثيرون.

تأثيرات الاستكشاف والاستخراج
تؤثر عملية استكشاف البترول واستخراجه بشكل كبير على النظام البيئي، وعلى معيشة الذين يعتاشون من المحيط (من البر والبحر، وفلاحين وصيادين…) وصحتهم.

وتعمل شركات النفط على البحث عن النفط والغاز باستخدام وسائل وتكنولوجيا ضخمة جدا، وعندما تحدد مناطق تواجده، تقوم هذه الشركات ببناء الأرضيات والمضخات وإجراء الاختبارات على نوعيته… وهذا ما يساهم ايضا في تخريب الكثير من النظم الايكولوجية البحرية والبرية.

ويتأتى التأثير البيئي لعملية استكشاف البترول واستخراجه من خلال حوادث التسربات النفطية، وتتمثل أكبر الآثار البيئية في إزالة الغابات، تخريب النظام البيئي، التلوث البيئي والمائي، التأثير الطويل الأجل في الحياة الحيوانية (خاصة الطيور والكائنات البحرية)، التأثير في صحة المجتمعات والعاملين في الصناعة البترولية، والمساهمة في ترحيل الكائنات الحية.

وتتطلب الصناعة البترولية نقل تجهيزات كبيرة جدا (يفوق وزنها الألف طن) إلى بيئة بعيدة، وبذلك فإن عملية تطهير الأراضي من الأشجار وبناء الأرضيات تساعد على إزالة الغابات وتآكلها، وتساهم عملية التنقيب على البترول واستخراجه في استخدام كميات ضخمة من المياه، والتي يتم تلويثها ورميها إلى الطبيعة، وهذا ما ينتج عنه تلوث كيميائي للبيئة والمياه.

ويعتبر التلوث البحري من اخطر تأثيرات الصناعة البترولية على النظام البيئي، بحيث ان كمية من البترول حتى وإن كانت صغيرة يمكن أن يكون لها تأثيرات حادة وقاتلة على الحياة البحرية، ولذلك فإن الكميات الكبيرة التي ترمى ولفترات زمنية طويلة تؤثر بشكل دائم على استمرارية التنوع البيئي البحري.

وتمثل المياه الصناعية المستعملة التي ترمى على الشواطئ، واستخراج البترول إلى الأرض، والنفايات البترولية التي يتم رميها، أهم مصادر التلوث البحري المتعلق بالبترول.

كما تعتبرعمليات تنظيف الشواطئ او قعر البحار والمحيطات من المشتقات النفطية بعد حصول الحوادث معقدة جدا مع التأكيد ان آثار البقع النفطية يمكن ان تبقى لمدى بعيد جدا وتمنع وصول الضوء الى بعض الكائنات البحرية وتقتلها.

تأثيرات عملية النقل
إن الانفصال الدائم بين مواقع احتياطات النفط ومواقع الحاجة إليه يفرض نقله الى مسافات بعيدة من أجل إيصاله إلى مستهلكيه، وهذا ما يساعد على زيادة تعقيد أنظمة نقله عبر العالم.

وتنتج من عمليات نقل البترول العديد من حوادث التسربات النفطية، سواء كانت عبر الأنابيب أو السفن، أو وسائل النقل البرية، ويسجل في تاريخ العالم العديد من كوارث التسربات النفطية التي أثرت بشكل مميت في النظام البيئي.

ويتأتى التلوث البحري الروتيني من عملية تنظيف الصهاريج الكبيرة لناقلات البترول الضخمة، بحيث انه بعد تفريغ الناقلات لحمولتها في الدول المستوردة، تعود إلى الدول المصدرة لإعادة شحنها، وعند بداية الشحن يتم تنظيف الصهاريج من البواقي النفطية بالماء، ثم يتم رمي الماء المختلط مع البواقي البترولية في البحر، بالإضافة إلى هذا فإن مياه التنظيف هي مياه حصوية ومالحة ترمى هي الأخرى في البحر وبكميات كبيرة جدا، وهو ما يهدد الحياة البحرية البيئية وتوازنها.

وتؤثر حوادث التسربات النفطية في صحة الإنسان والحيوان أثناء حدوثها، وأثناء تنظيفها، وحين استهلاك الكائنات المتسممة منها. بالإضافة إلى هذا تكون لهذه الحوادث العديد من الانعكاسات الاقتصادية مثل تدمير الثروة السمكية وترحيلها إلى أماكن أخرى لسنوات عديدة، بالإضافة إلى انخفاض درجة ثقة المستهلكين بسلامتها الصحية.

السفير

اترك تعليقاً

الرجاء إدخال تعليقك!
الرجاء إدخال الاسم هنا