يُعدّ مفهوم استرجاع الحياة البرية، خلاصة تجربة وبحث وصل إليه الكثير من الناشطين والخبراء البيئيين حول العالم، من فكرة حفظ التنوع البيولوجي إلى استعادته بمعنى ترميم المنظومات الإيكولوجية وإعادة العناصر التي فقدتها نتيجة للنشاط البشري.
ولعل أول عرضٍ للمفهوم الذي أطلقه الناشط البيئي الأميركي وأحد مؤسسي حركة الأرض أولاً Earth First دايف فورمان في آخر سبعينيات القرن الماضي، كان في مقالة مايكل سولاي وريد نوس المشتركة المنشورة في العام 1998 والتي قدّمت للمفهوم خارج إطار الفهم التقليدي لحفظ الحياة البرية القائم على حفظ التنوع البيولوجي الذي يرتكز على موضوعي التنوع النباتي وحماية العناصر الحيوية الأخرى (حيوانات، طيور، أسماك..) وحسب، إلى استعادة بريّة الأرض من خلال ثلاثة عناصر: تأمين المساحات البرية الواسعة، تأمين التواصل بين المساحات البرية المنتشرة في المناطق، وضرورة حفظ دور الحيوانات اللاحمة الكبيرة وإعادة توطين ما فُقد منها من فصائل في النظم المستهدفة.

في عرضهما يخلص سولاي ونوس إلى أن المفهومين؛ «حفظ التنوع» و»استعادة الحياة البرية» متممان لبعضهما بعضاً. ففي سياق عملية استعادة الحياة البرية أو بريّة الأرض، لا بدّ من الحيوانات المفترسة التي تلعب دوراً أساسياً في هيكلية السلسلة الغذائية للنظم الايكولوجية. والتي يكفل وجودها، دون غيرها من الفصائل، بتأمين التوازن للحياة البرية وهو ما يضمن تنوعها واستمراريتها. وهو ما اصطلح عليه «تأثير باين» نسبة لروبرت باين الذي تناول دور الحيوانات اللاحمة كـ «حجر العقد» Keystone species)) في حفظ وتنسيق التنوع والتوازن البيولوجي للحياة البرية من أعلى إلى أسفل، ويأتي في أعلى «السلسلة الغذائية» الحيوانات المفترسة. ولذلك فإن فقدان أعلى السلسلة يؤدي إلى إرباك كامل المنظومة وتجاوز فصائل حية لفصائل أخرى حيوانية أو نباتية. ولعل هذا يفسر حماسة العديد من المنظمات البيئية التي تعنى بالحيوانات النباتية والتي تندرج ضمن السلسلة الغذائية للحيوانات اللاحمة (الغزلان، الخنازير البرية، أصناف القوارض.. على سبيل المثال)، حيث تواجه العديد من المحميات الطبيعية، والتي لا توجد فيها حيوانات لاحمة أو ليس بشكل متكافئ، مشكلة حيال تزايد أعداد فصائل حيوانية على أخرى بحيث تخرج عن السيطرة ويؤدي ذلك إلى تراجع حيوية النظام الإيكولوجي وأحياناً كثيرة ضموره تباعاً. وهو ما وضع إدارة تلك المحميات والمنظمات الراعية أمام معضلة أخلاقية وبيئية في آن؛ وهي كيفية التعامل مع الأعداد المتزايدة من فصائل دون أخرى أو كيفية تحديد نسب «توازنها» ضمن البنية الإيكولوجية ككل بالمقام الأول. وبخلاصة التجربة والدراسة خلُص إلى أن أنجع الطرق هي باستعادة الحيوانات اللاحمة التي تنتمي لتلك النظم والتي سبق أن فقدتها نتيجة النشاط البشري.

وينطلق المفهوم من غايات ثلاث: أخلاقية، وعلمية، وجمالية. الأولى تجد مسؤولية إنسانية حيال الضرر المتواصل الذي يتسبب به الإنسان للبيئة من حوله ويوجب عليه تحمل مسؤوليته الأخلاقية في إرجاع الأمور إلى سابق عهدها. والثاني حفظاً للمنظومة الإحيائية واستعادة لما فقدته من خلال إعادة توطين كائنات أو نباتات فقدتها خلال تاريخ طويل من اختلال المنظومات نتيجة للتعديات والنشاط البشري، ومنحها مساحات برية مفتوحة على بعضها. والثالثة العنصر الجمالي، فبرية المناطق لا تتحدّد إلا بروحها وهو ما تحققه الحيوانات اللاحمة التي تمنح النظم الإيكولوجية التوازن من جهة والروح من جهة أخرى.

البريّة كطور أول
لم يعد مفهوم حفظ التنوّع البيولوجي معنياً بالحفاظ على المتبقي من بقاع خضراء أو حرجية محدّدة بما فيها من عناصر حية أو إطلاق سراح الحيوانات البرية المحتجزة وإعادتها إلى مواطنها وحسب. وإنما وفي سبيل تحقيق حفظ التنوع واستمرارية الحياة البرية لا بدّ من تأمين عناصر «هندستها الجينية» وهو ما يتحصل بالتوازن، وذاك هو بناء السلسلة الغذائية بدءاً من العقد الأعلى ونزولاً إلى باقي عناصر السلسلة. والتي تتغيّر وتتمايز من منظومة ايكولوجية إلى أخرى وحتى ضمن المنظومة الواحدة في مسارها التاريخي.

فالحيوان اللاحم في أعلى السلم الغذائي قد يكون ذئباً في لبنان وأسداً في غابات غينيا أو قد يكون دباً في لبنان منذ 40 ألف عام واليوم هو ذئبٌ في توارث الفصائل والأدوار في المنظومات الأحيائية (Succession) ويتحدد ذلك بدراسة النظم وعناصرها وتاريخها. وقد يكون لاحماً مفترساً في بلد ونباتي في بلد آخر، كما كان الحال في العصر الجليدي حيث شكل الماموث رأس النظام الإيكولوجي لحقبة طويلة وفي أماكن شاسعة من شمال الكوكب. وما ينطبق على البر ينطبق على البحر ومنظوماته والموائل.

وفي حين يستوجب ذلك دراسة معمّقة للمناطق المستهدفة وخصوصياتها ونظمها وتاريخها الايكولوجي فإن تطبيق ذلك يجب أن يُترك للطبيعة عينها. لعل هذه الإضافة الأهم التي عمل عليها الروائي والناشط جورج مونبيوت في أهم الكتب المتناولة للموضوع اليوم Feral, rewilding the land, sea and human life المنشور في 2013 الذي يؤرخ للمفهوم وتطوره. يدعو مونبيوت إلى عدم التدخل في «إدارة» المناطق البرية على ما تفترض المنظمات والمؤسسات البيئية التي تسعى للحفاظ على المناطق البرية بل أن يترك للحياة البرية فعل ذلك وللمنظومات أن تواصل مسيرها الذي انقطع بفعل التعديات البشرية وهي، أي المنظومات الإيكولوجية، بعناصرها الحيوية المتنوعة كفيلة بذلك. جُلّ ما يمكن فعله من طرفنا هو أن نُعيد عناصرها التي فقدتها بتعدّينا عليها سواء كانت حيوانية أو نباتية وفي بعض الحالات إبعاد الفصائل الغريبة التي دخلت على تلك المنظومات من خارج العملية الطبيعية والتي يصعب التحكم بها في سياق العملية الطبيعية المُستأنفة وعدم التدخل بعد ذلك لنترك لها أن تواصل ما كانت تقوم به منذ ملايين السنين بانسجام كامل وكانت تجد دائماً طريقة تتأقلم فيه مع بعضها بعضاً وتتطور وتستمر كحياة برية في انسجام تام. وبإمكاننا كذلك أن نمنح أنفسنا فرصة لنكون برييّن، إذا جاز التعبير، أن نسعى أن نكون جزءاً من ذلك الانسجام محبين للطبيعة كما هي وليس كما نريدها أو اعتدنا على صورتها «المرتّبة» والمنسقة وكأنها حدائقنا الخاصة أو العامة و «ليس الغاية في ذلك أن نحب أنفسنا أقل بل أن نحب الطبيعة أكثر»، أن ندع لها أن تقرر لا أن نحدد لها وهي كفيلة بنفسها بل وبنا كذلك، خاصة مع تداعيات الاستهلاك المتوحش للموارد الطبيعية والتحديات المصيرية التي يواجهها الإنسان نتيجة لذلك من قبيل الاحتباس الحراري والتغيّر المناخي وهي تحديات باتت تستوجب خطوات وسياسات راديكالية على أكثر من مستوى.

ويوجّه مونبيوت نقداً لاذعاً للحركات والمنظمات البيئية التقليدية التي تمارس عملية حفظ التنوع البيولوجي وكأنها تتعاطى مع معادلات محددة جامدة. فبالنسبة له فإن عملية استرجاع الحياة البرية لا تحمل نقاطاً نهائية، فهي ليست خطة تُدار والحياة البرية ليست حديقة عامة نتدخل فيها لنحدد الشكل وأنواع الأشجار والحيوانات التي ينبغي أن تكون فيها. هي عملياً الحياة الذاتية للطبيعة والتي لا تحتمل تقديراتنا التي نضعها لنحدد لها أهدافاً فيما نحن نغفل عن كثير من خصوصياتها وعلاقات عناصرها المتعددة مع بعضها بعضاً التي قد لا نقدرها تماماً.

هل الاسترجاع ممكن؟
تواجه الحياة البرية في لبنان تحديات جدّية لعل أهمها غياب أي خطة تلحظ حفظ أو استرجاع الحياة البرية في مناطق عدة من لبنان فقدتها وأخرى في طريقها إلى ذلك، فيما تتواصل أعمال التعدّي على المناطق البرية سواء بالمشاريع العامة أو الخاصة. وبالإضافة إلى غياب الخطة، فإن أسس بنائها غير متاحة حيث لا تصنيف كاملاً وحقيقياً للحياة البرية في لبنان ومناطقها باستثناء معلومات تتفاوت مستوياتها لأربع عشرة محمية وعدد آخر من الحمى منتشرة حول لبنان.

وتلتبس لدى العديد المفاهيم، حيث ترتبط في أذهان الناس الحياة البرية بالمساحات الخضراء حصراً، علماً أنه من الممكن كثيراً أن تكون بعض قفار الهرمل أو منحدرات جبل الشيخ (على سبيل المثال لا الحصر) تتمتع بمستويات أغنى في الحياة البرية عن بعض الأحراج بفعل النشاط البشري حيث باتت منتزهات مفتوحة من دون أي معايير أو قيود، بحيث لم يبقَ في بعضها أي أثر للحيوانات على أنواعها. كما أدّى القتل العشوائي لغرض التسلية والصيد لكل أشكال الحياة في البرية (على الرغم من صدور نظام الصيد البري 2004) أو البحر وكذلك الطيور المقيمة والمهاجرة على حدٍ سواء، على الرغم من قرارات حظر الصيد، إلى كارثة بيئية لم يعِ اللبنانيون حجمها بعد لغياب دراسات تقييم الأثر البيئي.

إن العمل لحفظ الحياة البرية في لبنان واسترجاعها ((rewilding في مناطقه يتطلب سياسات تعي مفهوم الحياة البرية وتقف عند تحدياتها في كل تفصيل أولاً، وتضعها أولوية على مختلف المستويات والمشاريع. وكذلك قرارات جذرية وهو ما يتطلب بنية بحثية وهيئة تخطيط بيئي وآلية تنفيذ مرنة للقرارات والخطط. وباعتبار وزارة البيئة هي الهيئة التي تعنى بالبيئة في لبنان بموجب القانون 217/1993 ولاحقاً قانون 690/2005. فإن أي خطة جدية تتطلب البدء بتطوير بنية الوزارة على المستوى الفني والإداري والتنفيذي فضلاً عن الصلاحيات للوصول إلى حوكمة بيئية.

 

هشام يونس – السفير

اترك تعليقاً

الرجاء إدخال تعليقك!
الرجاء إدخال الاسم هنا