تشكل العوامل الطبيعية (المناخية – الجغرافية – الطبوغرافية – الجيولوجية – مواد البناء) إطار البيئة الخارجية للإنسان، وتتغير ظروفها من موقع الى اخر، فعندما يحدث اختلال بين هذه العوامل المترابطة وتظهر انماط غير مناسبة لمعيشة وتطور الانسان يلزم التدخل لمعالجة هذه الظروف عن طريق التخطيط والتصميم الملائمين لمعطيات واحتياجات المكان والانسان. وتجسد البيئة الحضرية بما تشمله من تنظيم وتحسين للوضع العمراني القائم او استنباط انماط وهياكل انشائية جديدة ووظائف عمرانية متطورة في البناء والتشييد سواء داخل حدود المدينة او في ضواحيها المتعددة، المستوى الحضاري لنهضة الشعوب والمجتمعات في الحيز المكاني والتي تراعي المحددات الطبيعية والاجتماعية (سكان – عادات وتقاليد – سمات تاريخية – قيم ثقافية) والاقتصادية (انشطة اقتصادية – دخل الفرد – المستوى الحضاري).

إن الافراط في عملية استخدام الموارد الطبيعية المتاحة والاستهلاك غير المرشد الذي يصل الى حد الاستنزاف للعناصر البيئية يؤدي الى قيام مجتمعات عمرانية غير صحية وغير متجانسة.

الموارد الطبيعية في الدول  العربية

تشترك الدول العربية بخصائص متشابهة في الموارد الطبيعية والمعطيات البيئية مثل الشواطئ المائية والأودية والسهول التي تغطيها رواسب الحصى والرمال ويتميز السطح بأشكال مختلفة الأحجام والألوان وبموجات وانحدارات متدرجة ومتباعدة في بعض المناطق، كما يوجد الكثير من ابار المياه العذبة المنتشرة في الصحراء التي تغذي المناطق المجاورة بالحياة وتساهم في النهضة والتنمية الاقتصادية والعمرانية لهذه البلاد. أما المناخ فيمتاز بفصلين رئيسيين هما الصيف الطويل والجاف والشتاء القصير الدافئ والممطر وتنمو وتزدهر فيه الأعشاب وتهب الرياح بانتظام في بعض البلاد مثل الكويت والسعودية والمغرب العربى  وتتفاوت في بلاد اخرى وقد تكون محملة بالعواصف الترابية وتحد من مدى الرؤية كما أن الرطوبة النسبية تكون مرتفعة وخاصة في المناطق الساحلية. ويحمل باطن الارض في دول الخليج العربية كنوزا طبيعية مثل مناجم النفط والغاز والمعادن والذهب ومواد البناء وغيرها من العناصر الطبيعية الغنية اضافة الى وجود ثروة من الطيور والحيوانات البيئية النادرة. وكل هذه العناصر تمثل موارد متاحة وكامنة للتنمية المستقبلية مع مراعاة تحقيق التوازن بين هذه التنمية وصيانة وحماية هذه المكونات من التدهور والاستنزاف.

تأثير العوامل الطبيعية

تؤثر العوامل البيئية بشكل مباشر وغير مباشر في الإنسان فمن الواضح ان اللون الاخضر يخلق مناخا مريحا وبيئة معيشية افضل للسكان حيث التناغم بين طبيعة الارض والأشجار. فالنباتات تقلل من عوامل التلوث وتساعد على تنقية الاجواء من الروائح غير المستحبة كما ان لبعض الاشجار والزهور روائح جميلة وعطرة تجعل من السير في الطرقات متعة كما في الحدائق والمتنزهات اضافة الى ان للألوان والنباتات وأشكالها المتعددة والمشوقة انعكاسات ايجابية على النفس البشرية ومن ثم على نمط المعيشة والسلوك العام والمجتمع.

تتميز الدول  العربية بعادات وتقاليد ذات سمات خاصة تنعكس على النواحي العمرانية. إن وجود الديوانية في  الكويت وملتقى العشائر فى الاردن والعراق على سبيل المثال كمكان يلتقي فيه الكبار والصغار يمثل عادة متأصلة وأصيلة وهو احدى السمات الرئيسية والمهمة في أي بناء جديد كما يخصص مكان كبير في معظم بيوت شعوب دول الخليج العربية لالتقاء الرجال وتدور فيه المناقشات والحوارات الثقافية والدينية وهو ملتقى لاستقبال وإكرام الضيوف وتبادل السمر والترفيه مثل الاستماع الى الأدب العربي والشعر النبطي وتاريخ الأمم وفيه يستقي الشباب والصغار خبرات وتجارب الكبار. كما ان من العادات القديمة المتوارثة في المنطقة المركزية حول الحرم بمدينة مكة المكرمة قيام أهل المنزل بتأجير جزء من مسكنهم لحجاج بين الله الحرام أو المعتمرين لذلك يتوافق تصميم المسكن مع هذه التقاليد حيث ينقسم إلى جزءين منفصلين يحتوي كل جزء على الخدمات الأساسية للمعيشة ويساعد ذلك على تسهيل عملية التأجير مع المحافظة على خصوصية الأسرة وتوفير الراحة للمستأجرين.

توافق التنمية العمرانية مع البيئة المحيطة

تتسم التنمية العمرانية في معظم دول الخليج العربي بالاتزان والتناغم مع المعطيات والمحددات البيئية المحيطة ويمكن ايجاز اهم هذه الملامح في التالي:

–  يتميز التخطيط العام للمباني بالتلاصق وذلك لتوفير التظليل المتبادل بين المجموعات العمرانية وتقليل المساحات المعرضة لأشعة الشمس والتي قد تزيد عن خمسين درجة مئوية في فصل الصيف.

–  التصميم يكون متوجها الى داخل المبنى للاستفادة من المناخ وتندرج الفراغات من فراغ خاص بالأسرة داخل المنزل وهو غير قابل للكشف من المباني المحيطة كما يوجد الفراغ الخلفي خارج المبنى الذي تستخدم فيه كاسرات بصرية لتوفير الخصوصية للأسرة، أما الفراغ العام فهو مكشوف من الشارع والجيران.

–  توصيل الغرف بالفناء ويتم عزل دورات المياه والمطابخ وفصلها بتهوية خاصة.

–  الاكثار من النباتات والمسطحات المائية لتلطيف المناخ الحار وتحقيق التناغم العمراني.

–  النوافذ وفتحات التهوية صغيرة في الحوائط الخارجية ومحمية من اشعة الشمس الساقطة والتهوية أقل ما يمكن خلال النهار واستخدام الحوائط السميكة التقليدية او استخدام المواد العازلة والعاكسة للحرارا عند استخدام مواد البناء الحديثة.

– استخدام الأسقف الصلبة التي تختزن الحرارة وذات الاسطح العلوية العاكسة وقد يستخدم سقفان بينهما فراغ بسيط للتهوية كما تطلى الاسطح باللون الابيض الذي يساعد على انعكاس الحرارة وعدم تخزينها.

–  مراعاة خط الأفق للنسيج العمراني والحضري عن طريق التوظيف الأمثل للخطوط الكنتورية ومناسيب الأرض المتفاوتة (مثل الاستفادة بمآذن المساجد – العناصر الطبيعية المتوفرة).

– المنظور البيئي للمجتمع الصحي يعني تحقيق حالة من التوازن بين الإنسان والمحيط العام ويتحقق هذا التوازن من خلال المحافظة على بيئة عمرانية سليمة بحيث يتيح الوسط مستوى من التجديد والنمو الشامل في القطاعات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والترشيد العاقل للأنماط الاستهلاكية، ويلزم ان تراعي التشريعات واللوائح المنظمة للتنمية الشروط الصحية لحماية البيئة والمحيط الحيوي.

– التخلص الأمثل من النفايات (الترشيد من المصدر وإعادة تدويرها). وتوفير مواقع سهلة وصحية لتجميعها.

– رغم ان نمو المدن والتمدن الحضري حقيقة من حقائق التوسع المستقبلي لاستمرار العمران فإن مراعاة عوامل التوافق والتوازن بين هذا النمو ومحددات البيئة المحيطة يمثل حاجة ضرورية لتوفير الراحة والأمان والخصوصية واستمرار التنمية المتناغمة للإنسان والمكان. لذلك فإن التوظيف الأمثل للموارد والامكانات الطبيعية المتاحة والكامنة في دول الخليج العربية والأخذ بالأساليب الحديثة المتوازنة وتوافق البيئة والعمران يمثل ضرورة لازمة

المنظومة العمرانية المتجانسة بيئيا يجب ان تحقق العناصر التالية:

–  تطوير نمط البناء والتشييد (إسكان حكومي – إسكان خاص – إسكان استثماري – مبان عامة – مرافق وخدمات – بناء تقليدي) بما يتوافق مع معطيات البيئة المحيطة

–  تحسين اساليب العمران بما يتكيف مع البيئة الطبيعية والاجتماعية والاقتصادية للمجتمعات العمرانية (مواد الانشاء والتقنية البنائية – تشكيل الفراغات والتجانس بين الكتلة والفراغ والوظيفة والجمال وأعمال التنسيق العام).

–  مراعاة عاملي التكلفة والزمن مع الجودة العالية وانعكاساتها في البيئة والتوازن بين متطلبات المكان والزمان والامكانات المتاحة الحالية والمستقبلية لكل موقع تنموي.

–   تبني برامج تنفيذية للبناء والعمران في اطار سياسة ثابتة للتوظيف الحضري والعمراني الأمثل بحيث تتكيف اولوياتها مع الظروف المتغيرة للمجتمع الخليجي والعربي.

–  مراعاة العمق البيئي والاجتماعي والظروف المحلية والاقليمية لكل موقع والترابط بين هذه العناصر عند الاضطلاع بأعمال التنمية والتخطيط العمراني والحضري.

–  دعم وتعزيز الاتجاه نحو العمارة الخضراء التي تتجانس مع متطلبات البيئة وتحقق الأمان والراحة المعيشية للإنسان.

–  مراعاة الأخذ بأسلوب التخطيط الاقليمي الذي يتعلق بدراسة الموارد الطبعية والبشرية للوقوف على الامكانات المتاحة والكامنة لكل اقليم مما يقود إلى تحقيق التوازن بين البيئة والعمران.

–  استحداث تشريعات وقوانين ملزمة تنظم حركة التطور العمراني بما يتناسب مع البيئة المحيطة وايجاد معايير وأسس فنية موحدة للتخطيط والتصميم البيئي في دول الخليج العربية.
الهوامش:
(1) اندرو، ماك فرانسيس ت، خليف، عبداللطيف محمد، يوسف، جمعة سيد (مترجمان). «علم النفس البيئي»، مجلة التأليف والتعريب والنشر – جامعة الكويت – دولة الكويت – 1998.
(2)برليري، ماديا لويزا، ابو السعود، عطيات، مكاوي، عبدالغفار (مترجمان)، «المدينة الفاضلة عبر التاريخ»، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب – عالم المعرفة رقم 225، دولة الكويت – سبتمبر 1997.
(3) هشام، علي مهران، «العمارة الخضراء ومدن البيئة الصحية»، مجلة العلم – باب عالم البيئة – العدد 263 – القاهرة – جمهورية مصر العربية – اغسطس 1998.
(4) خوري، بولا، الخرستاني، ربيع، «العمارة متعددة الوظائف»، دار قابس للطباعة والنشر – دمشق – سوريا – 1992.
(5) اللجنة الاقتصادية والاجتماعية لغربي اسيا (الاسكوا)، «الواقع البيئي للمدينة العربية ووضع الفرد والأسرة في ظل التحضر»، ندوة الأسرة والمدينة والخدمات الاجتماعية – المكتب التنفيذي لمجلس وزراء العمل والشؤون الاجتماعية بدول مجلس التعاون لدول الخليج العربية – الكويت 21 – 23/2/1998 – ص1 ص 81.
(6) البيئة، الحصيني والشعبي، «التجربة المعمارية»، مطابع الوفاء – الدمام – المملكة العربية السعودية – 1410هـ 1989. (7) هشام، علي مهران، «تطوير وتخطيط منطقة النعيم بالجهراء»، الهيئة العامة للإسكان – دولة الكويت – 1993.

دكتور مهندس / علي مهران هشام
الحاصل على الجائزة العالمية للابداع اليئى-اليابان 2001 –

تعليق واحد

  1. في البداية الشكر الجزيل للاخ د.علي على تناول هذا الموضوع الحساس والمهم والذي يعد العنصر الاساسي في حياة الانسان,فالبيئة عنصر حياة وراحة الانسان,وقد حاول الانسان استغلال الموارد المتاحة لتوفير بيئة مصطنعة وتتمثل بالمدينة,وقد تهور كثيرا في استغلال كل ما يمكن من اجل ذلك حتى تحولت المدينة من بيئة مريحة الى بيئة يكتنفها الظجر والملل لم يعد يتوفر فيها الامن الامان من جميع الجوانب,كما تحولت البيئة بكل انواعها الى بيئة هشة غير متينة,ويتضح ذلك في الدول النامية او المتخلفة التي لم تبدي اي اهمية لذلك لذا يدفع الانسان في تلك الدول فاتورة الاهمال الذي تتعرض له البيئة,ونحتاج الان الى ان نفعل منظمات المجتمع المدني للنهوض بدورها في مواجهة التحديات المختلفة ومنها التغير المناخي. 

اترك تعليقاً

الرجاء إدخال تعليقك!
الرجاء إدخال الاسم هنا