لا يشكِّل تَراجُع مخزون المياه العذبة في عديد من أجزاء العالم مثار اهتمام كبير للأبحاث العلمية فحسب، بل يشكل كذلك موضوعًا ذا أهمية اجتماعية بالغة. توفر التقارير التي تتناول نضوب المياه الجوفية1,2 وتراجع مستويات المياه في الأنهار والبحيرات3 أدلة قاطعة على تجاوز درجة استخدام المياه العذبة لمقدار الإمدادات المتجددة، غير أن تحديد كمية إمدادات المياه العذبة واستخدامها حول العالم يمثل تحديًا فنيًّا كبيرًا. يقدر ويدا، وبيركنز4 في بحثهما المنشور في دورية “إنفايرومنتال ريسيرش لترز”، الذي يُعَدّ واحدًا من أكثر التحليلات شمولًا، مقدار إمدادات المياه العذبة واستخدامها في الفترة ما بين عامي 1960 إلى 2099. ويستخدم هذان المؤلفان السجلات التاريخية والتنبؤات المستقبلية التي تتضمن تغييرات جوهرية ديموغرافية، وأخرى ذات صلة بالمناخ يُتوقع حدوثها في هذا القرن. كما يكشف تحليلهما عن زيادة مضطردة في الاستخدام غير المتجدد للمياه العذبة في شتى أنحاء العالم، الأمر الذي ينبغي أن يصبح مثار قلق عالمي.

يستهلك الري %70 من كميات المياه العذبة المسحوبة في جميع أنحاء العالم4. كما شَكَّلَ التوسع الكبير في مساحة الأراضي الزراعية المروية السبب الرئيس في حدوث الثورات الخضراء في نصف القرن الماضي، وتسببت هذه الثورات في زيادة مهولة في إنتاج الغذاء، وبصورة خاصة في الولايات المتحدة وآسيا. ولأن عمليات الري تعيد توزيع المياه العذبة التي يتم سحبها من المكامن المائية والأنهار والبحيرات إلى اليابسة، فإن ذلك يؤدي إلى تغيُّر موازين المياه الإقليمية، عن طريق زيادة الاستخدام الاستهلاكي للمياه العذبة بواسطة التبخر الكُلِّي.

يمكن أن تتسبب عمليات الري المكثفة في نضوب موارد المياه العذبة. وبالنسبة إلى البحيرات والأنهار التي تتم تغذيتها بالمياه بواسطة هطْل الأمطار في الوقت الحاضر، نجد أن مقدار النضوب يتقيد بأحجامها الكلية المحدودة5 (حوالي 93,000 كم مكعب في جميع أنحاء العالم)، وبالأثر الجلي للإفراط في استخدام هذه الموارد. وعلى النقيض مما سبق، تمكن موارد المياه الجوفية، التي تعتمد على هَطْل الأمطار على امتداد فترات تتراوح ما بين أعوام إلى عقود، أو حتى على مدى آلاف الأعوام، من الاستخدام المكثف غير المتجدد بسبب ضخامة أحجامها الشاسعة (التي تصل إلى 10,500,000 كيلومتر مكعب) وتوزعها5، لأن آثار الإفراط في استخدامها تخفى على الأعين إلى حد بعيد. وتتميز دراسة ويدا وبيركنز على الدراسات السابقة بتضمينها للاستخدامات غير المتجددة للمياه الجوفية والسطحية بصورة واضحة.

قام المؤلفان بتجميع أكثر التقديرات تفصيلًا للتغيرات في الاستخدامات الزراعية، والصناعية، والمنزلية للمياه العذبة في جميع أنحاء العالم باستخدام نطاق واسع من المصادر. والأمر ذو الأهمية الكبرى هو وضع هذه التقديرات للتدفق المائي المرتجع من عمليات الري، ولإعادة تدوير المياه من عمليات السَّحْب الصناعية والمنزلية في الحسبان. قام المؤلفان بعد ذلك بمقارنة الاستخدام البشري للمياه العذبة بتقديرات لإمدادات المياه العذبة المشتقة من النموذج المائي العالمي، ومن إسهامات عمليات تحلية المياه في المناطق الساحلية. كما وضعا في تقديرهما التوقعات المستقبلية لإمداد المياه العذبة التي تصطحب معها تأثير التغير المناخي بصورة لا لبس فيها. تم تمثيل هذه التوقعات بخمسة نماذج مناخية تستخدم سيناريو “الطريق الوسط” الذي يتوقع أن يزيد الاحترار العالمي بمقدار 4 درجات مئوية بنهاية القرن. قام الباحثان بعد ذلك بمقارنة إمداد المياه العذبة المتوزعة واستخدامها؛ لكي يعرفا نسبة الاستخدام الاستهلاكي المبنِي على سَحْب المياه الجوفية غير المتجددة، وعلى الافراط في سَحْب المياه السطحية. في هذا السياق، يُعَرَّف سَحْب المياه الجوفية غير المتجددة على أنه استخدام المياه الجوفية الذي يزيد عند إعادة التغذية بواسطة الشحن، بينما يُعرَّف الإفراط في استخلاص المياه السطحية على أنه كمية التدفق المائي البيئي التي حُرمت من الوصول إلى الأنظمة البيئية المائية، بسبب الاستخدام الاستهلاكي.

تكشف دراسة ويدا وبيركنز عن زيادة الاستخدام العالمي غير المتجدد للمياه العذبة بنسبة %50 بين عامي 1960 و2010. وترجع هذه الزيادة بصورة رئيسة إلى التوسع في عمليات الري في الولايات المتحدة، والصين، والهند، وباكستان، والمكسيك، والسعودية، وشمالي إيران. والأمر المهم هنا هو أن هذه الزيادة تُعزَى بصورة رئيسة إلى السَّحْب غير المتجدد للمياه الجوفية (الشكل 1). ونتيجة لما سبق، تقول التقديرات الحالية إن المياه الجوفية مسؤولة عن نسبة %50 من عمليات سحب المياه العذبة في العالم. كذلك تدل التنبؤات المستقبلية على أن التغير المناخي سيفاقم من استخدام المياه العذبة غير المتجددة في منطقة البحر الأبيض المتوسط، وجنوب أفريقيا، والولايات المتحدة، والمكسيك، وفي الشرق الأوسط. وعلى الصعيد العالمي، يتوقع كذلك أن يزيد استخدام المياه العذبة غير المتجددة بمقدار الثلث في نهاية القرن الواحد والعشرين، كما يتوقع أن يمثل هذا الاستخدام %40 من الاستهلاك البشري للمياه. كذلك تدل التنبؤات على أن هذه الزيادة الإضافية ستأتي بصورة رئيسة من عمليات السَّحْب من المياه الجوفية غير المتجددة.

الشكل 1 | السجلات التاريخية والمتوقعة لسَحْب المياه الجوفية في البلدان ذات الاعتماد الكبير على الريّ في العالم.

يوضح الرسم البياني المعدل الكلي لسحب المياه الجوفية بصورة عامة، ومعدل سحب المياه الجوفية غير المتجددة في الهند، والولايات المتحدة، والصين، وباكستان، وإيران، والمكسيك، والسعودية، حسب تقديرات ويدا وبيركنز4، لأعوام 1960، و2010، و2099. وهذه البلدان مسؤولة عن %74 من سَحْب المياه الجوفية في عام 2010. وفي الفترة ما بين عامي 1960 و2010، زادت النسبة المقدَّرة لسَحْب المياه الجوفية غير المتجددة في كل هذه البلدان، فيما عدا باكستان، حيث ظلت النسبة ثابتة عند قيمة %58 المرتفعة.
يوضح الرسم البياني المعدل الكلي لسحب المياه الجوفية بصورة عامة، ومعدل سحب المياه الجوفية غير المتجددة في الهند، والولايات المتحدة، والصين، وباكستان، وإيران، والمكسيك، والسعودية، حسب تقديرات ويدا وبيركنز4، لأعوام 1960، و2010، و2099. وهذه البلدان مسؤولة عن %74 من سَحْب المياه الجوفية في عام 2010. وفي الفترة ما بين عامي 1960 و2010، زادت النسبة المقدَّرة لسَحْب المياه الجوفية غير المتجددة في كل هذه البلدان، فيما عدا باكستان، حيث ظلت النسبة ثابتة عند قيمة %58 المرتفعة.

 

وهناك ثمة نواقص مهمة لهذا التحليل.. أولًا، فمصادر المياه العذبة المتجددة في المناطق الاستوائية، وبالأخص في أفريقيا، غير ممثلة بصورة جيدة في النموذج المائي العالمي. كما أن تفريغ الأنهار في بعض الأحواض في هذا النموذج يفوق بمقدار مرتين أو ثلاث مرات ما تمت ملاحظته6 في الواقع؛ الأمر الذي يعكس على الأرجح وجود تقدير منخفض بصورة ممنهجة لعملية التبخر الكلي في المناطق الاستوائية. ثانيًا، لا تضع تقديرات سَحْب المياه الجوفية الكيفية التي ترفع بها المستويات المتراجعة للمياه العذبة، بسبب تزايد عدم تجدُّد هذه الموارد من تكلفة جلب المياه الجوفية إلى السطح، الأمر الذي يحصر إمكانية استغلالها على القادرين على تحمُّل نفقات حفر الآبار العميقة في الاعتبار. ثالثًا، إنتاج تنبؤ مستقبلي واحد لإمداد المياه العذبة ولاستخدامها بالاعتماد على متوسط نتائج خمسة نماذج مناخية متباينة يخفي درجة عدم اليقين في تأثيرات التغير المناخي. رابعًا، لا يضع هذا التحليل في اعتباره جودة المياه، ولا الكيفية التي قد يخفض بها تدوير المياه العذبة من السحب الزراعي، والصناعي، والمنزلي من إمداد المياه العذبة، بدلًا من تعزيزها. ورغم ما سبق، لا تضعف هذه النواقص من سلامة الخلاصة المركزية للمؤلفين بشأن الاعتماد المتزايد للبشر على استخدام الموارد غير المتجددة.

تتسبب الزيادة في استخدامنا لمثل هذه الموارد في نضوب المياه الجوفية المخزونة، كما تضر بعمل الأنظمة البيئية الحيوية التي تحافظ على استمرارية المصايد السمكية والخدمات الحيوية الأخرى. وبالفعل، يتسبب نضوب المياه الجوفية ـ الذي تمت ملاحظته في الوقت الحالي في بعض المناطق الزراعية الرئيسة1 ـ في تهديد إنتاج الغذاء على مستوى العالم. ويضعِف هذا النضوب أيضًا من صمودنا في وجه الزيادة المستقبلية في الطلب على المياه العذبة4 وفي وجه الاحترار العالمي كذلك. وفي عالم يزداد احترارًا، تزيد شدة هَطْل الأمطار، التي تحدث الآن بشكل أقل، وأشد7. وسوف يتسبب الأثر الناتج عن فترات الجفاف الأطول، والتباين الأكبر في تفريغ الأنهار، في زيادة كبيرة للاعتماد البشري على المياه الجوفية المخزونة، في الوقت الذي تتراجع فيه مستويات هذه الموارد في عدد من المناطق، وعلى تخزين المياه السطحية، في الوقت الذي تخضع فيه أنظمة نهرية أصلًا للسدود8.

ينبغي علينا أن نحسِّن من فهمنا لاستجابات تخزين المياه الجوفية وإعادة شحنها لزيادة شدة هَطْل الأمطار، التي يُتوقع أن تكون على أشدها في المناطق الاستوائية7. وفي الحقيقة، تمثل المناطق الاستوائية الموضع الذي يُتوقع أن تصل فيه الزيادة في استخدام المياه العذبة إلى الدرجة القصوى4. وينبغي كذلك أن نقلل من الاعتماد البشري على الموارد غير المتجددة للمياه العذبة، عن طريق استخدام أكثر فعاليةً للمياه، خصوصًا في عمليات الري، وعن طريق مقايضة “المياه الافتراضية”9، التي تؤدي إلى خفض استخدام المياه العذبة بواسطة استيراد الغذاء والمنتجات الأخرى. وإذا ما مضينا قدمًا في مسارنا الحالي؛ “فإننا سنستبين قيمة الماء حينما تجف البئر”10.

reference

ريتشارد تايلور

مجلة نيتشر العربية – فبراير 2015

اترك تعليقاً

الرجاء إدخال تعليقك!
الرجاء إدخال الاسم هنا