يقع أكثر العالم العربي في أشد مناطق العالم جفافًا وندرة مائية، وأقله بالمنطقة شبه الرطبة؛ ولا يحوز سكانه أكثر من 0.5% من الموارد المائية العالمية، رغم أنهم يمثلون 5% من سكان العالم، ويتوقع لجميع بلدانه أن تقع تحت خط الفقر المائي خلال العقدين القادمين.

في العالم العربي أنهار مثل النيل والفرات ودجلة والعاصي والأردن واليرموك وتهامة وجوبا، وجميعها أحواض عابرة للحدود، وتأتي دائمًا من دول خارجية، وغالبًا غير عربية.

وبالمثل فإن الحوض الرملي النوبي مشترك بين مصر وليبيا والسودان وتشاد، وحوض شمال الصحراء يجري تحت الجزائر وتونس وليبيا، والخزانات الجوفية بشبه الجزيرة العربية تتشاركها السعودية والأردن والإمارات والبحرين والكويت وقطر واليمن والعراق، ثم أخيرًا تشترك لبنان وسوريا والأردن في أحواض جوفية كلسية.

ويقع أغلب الدول العربية تحت خط الندرة المائية بحصة أقل من 1000 متر مكعب للفرد سنويًّا، والقليل منها تحت خط الفقر المدقع بحصة أقل من 500 متر مكعب للفرد سنويًّا.]1[

ورغم أن القطاع الزراعي بالدول العربية يستنزف وحده نحو 85% من إجمالي الموارد المائية المتاحة، إلا أن الدلائل المستقبلية تؤكد حاجته إلى المزيد؛ لمواجهة أخطار الفجوة الغذائية العربية العميقة في المستقبل. حيث يستورد 59% من غذائه من الخارج.]2[

مشاحة في الاصطلاح

وقبل الخوض في مخاطر مستقبل الأمن المائي العربي، ينبغي توضيح الفرق بين النهر الدولي والنهر المشترك أو العابر للحدود، فالأول يمر في أكثر من دولة، وترتبط دوله باتفاقيات مشتركة لتقسيم المياه، وعادة ما تكون مسجلة، ومحفوظة في البنك الدولي.

أما النهر العابر للحدود فلا ترتبط دوله باتفاقيات خاصة، وربما كان بينها بروتوكولات للتعاون. وعادة ما تكون قناعة دولة المنبع راسخة بأن الأنهار النابعة بأراضيها محلية، تعبر حدودها إلى الدول المجاورة، وهي حال نهري دجلة والفرات النابعَيْن في تركيا التي لا تعدهما دوليَّيْن، وترفض توقيع اتفاقيات مع العراق وسوريا تضمن لهما حصصًا محددة من مياههما، ولهذا أقامت ’سد أتاتورك العظيم‘، الذي أثر بشدة على حصة البلدين العربيَّيْن من مياه النهرين.

ونهر النيل من النوع الأول المرتبط باتفاقيات، بعضها يعود لأكثر من 125 سنة ماضية مع إثيوبيا المتحكمة بنحو 85% من إجمالي موارد النيل الموحد عبر النيل الأزرق (59–64%) ونهري السوبات وعطبرة (22-24%).]3[

وعادة ما تلجأ دول المنابع إلى مصطلح النهر العابر للحدود عندما تريد التملص من الاتفاقيات الدولية التي وقعت عليها، أو تفسرها وفق أهوائها للهروب من التزاماتها.

وقد تلوذ دول المنابع أيضًا بتطبيق نظرية ’السيادة المطلقة‘ على الموارد المائية داخل أراضيها، رغم أنها نظرية وحيدة أمام عشرات من النظريات تتحدث عن ’السيادة المشتركة‘ للموارد التي تتشاركها عدة دول.

التزامات مهجورة

بوجه عام فإن كمية المياه التي تتدفق بين ضفتي النهر هي التي تحدد الحياة في سلام أم في صراع، فعلى سبيل المثال: يمر نهر الكونغو بسبع دول أو تسع، ولا تثار مشكلات بينها؛ لأن كلا منها يأخذ ما يكفيه من مياهه الغزيرة وزيادة، بل ويذهب الكثير منها سدى في المحيط الأطلنطي، ومثل ذلك يحدث مع الدول المشاطئة لنهر الأمازون في أمريكا الجنوبية.
أما حوض نهر النيل الذي يضم 11 دولة عدد سكانها 437 مليون نسمة وفق تقديرات مبادرة حوض النيل لعام 2012، فلكي يعيش هؤلاء السكان في توافق، ينبغي أن يبلغ نصيب الفرد منهم 1000م3 سنويا حتى يتجاوز حد الندرة العالمية، أو حتى نصف هذا ليتجاوز حد الندرة المطلقة.

لكن النهر يعاني نقصًا في كمية المياه، ولا يزيد تصرفه (المياه التي تصل إلى دولة المصب) على 84 مليار متر مكعب سنويا، ومن هنا كانت الصراعات والحديث عن حروب المياه المستقبلية مع دول المنبع، التي عادة ما تمتلك العديد من الأنهار الأخرى خارج حوض النيل، تصل إلى 19 نهرا في إثيوبيا وحدها، ومثلها في تنزانيا وكينيا ورواندا وبوروندي.

إن اتفاقية الأمم المتحدة للمياه لعام 1997 والخاصة بالأنهار الدولية غير الملاحية تنص على ضرورة قيام دولة المنبع الراغبة في إنشاء سد على نهر دولي مشترك بجميع الدراسات البيئية والإنشائية؛ وأن تُخطر بها في شفافية تامة الدول التي تليها، المحتمل أن تتضرر من إقامة هذا السد أو المُنشأ، وأن تمهلها ستة أشهر قابلة للتمديد لستة أشهر أخرى لدراسة المشروع، وللتأكد من صحة هذه الدراسات، أو التحقق منها بوسائلها، أو بإقامة دراساتها الخاصة؛ وإذا ما رفضت الدولة التي يمكن أن تتضرر، فينبغي تأجيل إقامة السد أو المُنشأ لحين التوافق والتراضي حول التداعيات الضارة لهذا السد وتلافيها.

ولم تقم تركيا أو إثيوبيا بمراعاة ما سبق قبل إنشاء سدي ’أتاتورك‘ أو ’النهضة‘، وكلاهما يحمل اسم ’العظيم‘ لضخامة خزانه المائي.

كذلك يرى العديد من المنظمات المائية الدولية أنه ينبغي لدول المنابع الالتزام بإقامة السدود الصغيرة فقط، وهي عادة ما تكون أكثر كفاءة في توليد الكهرباء بنسب تصل إلى 70%؛ وألا تلجأ إلى السدود الكبيرة لتخزين المياه، التي لا تزيد كفاءتها في توليد الكهرباء على 33% فقط كما في سد النهضة؛ كما ينبغي التزامها بمبدأي عدم الحق في بيع المياه، وتصديرها إلى دول خارج الحوض أو داخله، وهو ما ترفضه دول تنبع الأنهار بأراضيها، وتعتبر المياه موردا طبيعيا تتجر به مثل النفط.

صراع مكتوم قد ينفجر

هناك أيضا الاختلاف بين مبدأي العدالة في توزيع المياه أو المساواة، فمبدأ العدالة تتبناه دول المصب، وفيه تقتسم الدول كلها موارد النهر كاملة من أمطار وعيون ومياه جوفية والمياه التي تجري بين ضفتي النهر، في حين تصر بعض دول المنابع على استبعاد الاقتسام في الأمطار والمياه الجوفية، وقصره على المياه المتدفقة بين ضفتي النهر فقط.

ثم إن دول المنابع تريد الحفاظ على الفواقد المائية، والمستنقعات المنتشرة بأراضيها بحسبانها بيئة طبيعية، في حين ترى دول المصب أن لها الحق في استقطاب هذه الفواقد الكبيرة من المياه للاستفادة منها. على سبيل المثال، تتراوح هذه في منطقة جنوب السودان وحدها من 30 إلى 40 مليار م3/سنويا.]4[

يضاف للنقطة السابقة أن دول المنابع تطالب دول المصب بترشيد استخدامات المياه وتقليل الفواقد من المجاري المائية المفتوحة على طول مجرى النهر، ورغبتها في أن تحدد حصص دول المصب بما يكفي للاستخدام الفعلي للمياه دون فواقد، رغم أنها فواقد طبيعية وتحدث في دول المنابع. والقانون الدولي يرفض استئثار دول المنابع بتحديد حصص مياه دول المصب.

سبقت الإشارة إلى أن جميع البلدان العربية تعتمد في مياهها على أحواض سطحية أو جوفية مشتركة، ما يحرمها الأمن المائي المستقر، ويتطلب منها متابعة يقظة لكل ما يدور في منابع هذه الأحواض.

لقد تنبأ الرئيس المصري الراحل السادات بأن الحرب القادمة التي قد تخوضها بلاده ستكون بسبب المياه لا الصراعات السياسية. والمياه سترسم مستقبل الاستقرار بين العراق وسوريا من ناحية وتركيا من جهة أخرى. أما الصراع على المياه مع المحتل في أنهار الجنوب اللبناني والأردن ومرتفعات الجولان فقد حسمته القوة العسكرية مبكرا لغير صالح العرب.

نادر نور الدين محمد
أستاذ الموارد المائية واستصلاح الأراضي بجامعة القاهرة.
SciDev.Net

اترك تعليقاً

الرجاء إدخال تعليقك!
الرجاء إدخال الاسم هنا