لا تنفصل قضية سلامة الغذاء، كما اكدنا مرارا، عن موضوع سلامة البيئة عامة. بما يعني سلامة الموارد والعناصر الاساسية للحياة وديمومتها لا سيما سلامة التربة والمياه والهواء وانتاج واستهلاك الطاقة… وكل ما يطلق عليه النظم الايكولوجية عامة.

فبعيدا عن الضجيج الاعلامي الذي يحدث بين حين وآخر حول سلامة الغذاء وصراع المصالح الذي يظهر… فان معالجة مشكلة سلامة الغذاء باتت امرا في غاية التعقيد في ظل اعتماد انظمة اقتصادية حرة متفلتة من كل قيد ونظم انتاجية واستهلاكية لا تشبع.

ومع فورة صناعية لا تعرف الحدود وقد انتجت آلاف المواد الكيميائية التي بتنا نعيش ونتعايش معها بشكل يومي وفي كل تفاصيل حياتنا، والتي تتبادل التأثير في ما بينها بشكل بات يستحيل معه، فصل المواد ومعرفة تأثيراتها وانعكاسات استخدامها على الصحة العامة والمحيط … مما صعّب ايضا تشخيص سبل السلامة والامراض وايجاد طرق للعلاج والمراقبة والصلاحيات.

فالغذاء بحد ذاته بات مفهوما يصعب تحديده وفصله عما يتصل به بشكل مباشر او غير مباشر.

وبات علينا ان ندقق كثيرا عندما نتحدث عن سلامة منتج زراعي او حيواني بشكل كامل ومتكامل في كل دورة حياته مع سلامة العاملين فيه.

فلا يمكن الحكم على اي منتج زراعي اذا لم نعرف سيرة حياته منذ النشأة كبذرة (طبيعية او معدلة جينيا) الى سلامة التربة وطرق الزرع والري والعناية والتخصيب ومكافحة الحشرات والحصاد والحفظ والتخزين والنقل والبيع.

وكذلك الامر بالنسبة الى المنتجات الحيوانية والتربية في المزارع وطرق العلف وانواع الاعلاف والعلاج والادوية البيطرية المستخدمة والعمر وظروف العيش وطرق السلخ والتنظيف والنقل والحفظ والتبريد والتغليف والتعقيم… الخ وطرق الفحص والتدقيق والمراقبة واخذ العينات (الدورية والمفاجئة).

كما يفترض ان نحدد عن ماذا نبحث في المختبرات، عن اي مشكلات (بكتيريات معروفة او شائعة ام عن مواد كيميائية يمكن ان تتراكم وان تشكل امراض معدية) ومن يدفع الكلفة… الخ.
فسلامة الغذاء الصحي بات مرتبطا باقتصاد السوق عامة وبقواعد التجارة بشكل كبير وبطبيعة انظمة ايكولوجية ومدى سلامتها وانظمة صحية واقتصادية وزراعية وتجارية واجتماعية متداخلة بشكل كبير.

وهناك فروقات هامة تتعلق بالآراء أو التصورات والمبادئ والإجراءات في قوانين التغذية بين دول العالم، وحتى بين ولايات او مقاطعات داخل كل دولة ايضا.

كما هناك انظمة واجهزة متضاربة الصلاحيات داخل الدولة نفسها تتعامل مع الغذاء، هذه الفروقات يمكن أن تعرقل أو تمنع اجراءات مراقبة الغذاء وتخلق بالتالي حالات من المزاحمة يمكن أيضاً او تؤثر مباشرة في تأدية السوق.

لذلك كانت هناك محاولات في لبنان لانتاج قانون جديد للغذاء يحاول ان يخفف من مشكلة تضارب الصلاحيات ويحاول تحديدها وتقسيمها بين الوزارات المعنية تمهيدا لتوضيح وتحميل المسؤوليات، اذ تتحمل الآن مسؤوليات متفرقة وزارات متعددة كالصحة والزراعة والصناعة والاقتصاد والتجارة والسياحة والداخلية والعدل والبيئة… الخ مما يوجب انتاج قانون جديد وشامل يحل اشكاليات تضارب الصلاحيات.
وضعت مسودة مشروع قانون سلامة الغذاء العام 2006 ولم يحصل التوافق حولها بسبب النزاع حول الصلاحيات التي تفقدها بعض الوزارات. «السفير» تعيد فتح النقاش حول هذا القانون الذي يعتبر محوريا لتأمين سلامة الغذاء.

تعقيدات التعريف

بالرغم من التضارب والتشابك بين الانظمة التي تؤثر في سلامة الغذاء، باتت هناك صعوبة في تحديد ماهية الغذاء نفسه. وهو ما يفترض ان يبدأ به اي قانون تنظيمي يبحث في سلامة الغذاء.

فاذا كان الغذاء هو ما نتناوله من طعام وماء ويشمل كافة المواد والمنتجات الطبيعية في الاصل، باتت دساتير وقوانين العالم بعد الثورة الصناعية وثورة الاتصالات والمواصلات وازدهار التجارة العالمية ملزمة باضافة المنتجات «المصنعة كلياً أو جزئياً»، والمنتجات «المحلية والمستوردة»، المعدة لاستهلاك الإنسان.

وهي اذ تشمل المياه اصلا، ولا نعرف ما اذا كنا نستطيع ان نشمل معها المشروبات غير الغذائية التي باتت بمثابة غذاء كالمشروبات الغازية والكحولية والقهوة والشاي والمتي وما يسمى «الزهورات» اي عصارة الاعشاب الطبية التي تستخدم على نطاق واسع مع الماكولات او بعدها…الخ وتلك المواد التي تستعمل خلال عمليات تصنيع وتحويل وتحضير الغذاء كمواد الحفظ والتعقيم والتلوين والتنكيه، بالاضافة الى التوابل.

كما تشمل الحيوانات والمنتجات الزراعية.

وتسهيلا لمهمة تعريف الغذاء التي عقّدتها عمليات التصنيع والتسويق، باتت قوانين الغذاء تلجأ الى تصنيف ما ليس غذاء وتذكر وتحدد مواد مثل الأدوية ومواد التجميل كما هي معرفة في قانون مزاولة مهنة الصيدلة والتبغ والتنباك، اي تلك المواد التي يتناولها الانسان من دون ان تكون غذاء.
وقد تذهب بعض المدارس الغذائية المتشددة الى استبعاد بعض المواد النباتية المصنفة تقليديا غذائية مثل التوم الذي يمكن ان يعبر بمثابة دواء اكثر منه غذاء، والبعض يدرج العسل ايضا في هذه الخانة …الخ
ولا نعرف كيف ستتعامل قوانين الغذاء مع اغذية الحيوانات الاليفة سواء التي تشاركنا بقايا مأكولاتنا او تلك التي لديها اطعمتها الخاصة والتي تعيش معنا والتي بتنا نشترك معها في الامراض وتبادل نقلها وكيف يمكن لانظمة الغذاء ان تشملها.

البحث عن المصدر

ومن أجل أن نتعرض لسلامة الغذاء بطريقة شامـلة وموضوعية يجب أن يكون هناك تحديد واسع وشامل لقانون التغـذية الذي يغطي شريحة واسعة من القوانين المباشـرة وغير المباشرة والمتعلقة بسلامة الغذاء والتغذية، وتشمل المقرّرات المواد المتعلقة بالطعام، طعام الحيوان، وغير ذلك من المنتجات الزراعية على مستوى المحاصيل الأولية.
وكي نتأكد من سلامة الغذاء، فإنه من الضروري أن نأخذ بالاعتبار كافة مصادر محاصيل الطعام، تسلسلياً، بدءاً بالمحاصيل الأولية والمنتجات الحيوانية، بما فيها مبيع أو تأمين الغذاء الى المستهلك الى معايير مراقبة سلامة العاملين والمنتجات… لأن كل عنصر او حلقة من السلسلة قد يكون لها أثر ما في سلامة الغذاء.
لقد أثبتت التجارب انه من الضروري أن نأخذ بعين الاعتبار المحاصيل، تصنيعها، نقلها وتوزيعها كطعام معطى للحيوانات المنتجة والتي تشمل ايضا المنتجات الحيوانية والتي يمكن ان تستعمل كطعام لمزارع السمك بعد ان يكون قد اصابها بعض الفساد بحيث قد يؤثر مباشرة أو غير مباشرة في سلامة الغذاء.

المختبرات والمقاييس

مع بروز التعقيدات في تصنيع الغذاء باتت المختبرات تلعب دورا مركزيا في سلامة الغذاء لا سيما لناحية التأكد من استمرارية العناية بالمحافظة على الجودة.

ولذلك يفترض بالقوانين المؤتمنة على السلامة ان تحدد انواع هذه المختبرات وما الذي يجب فحصه بشكل دوري ودائم وعشوائي… وطرق اخذ العينات ونقلها.

وذلك بعد ان يتم وضع المواصفات والمقاييس لكل سلعة او نوع، كي يتم اختبار مدى مطابقة المواصفات اثناء اجراء الاختبار.
ومن اجل أن يكون هناك عامل ثقة في القاعدة العلمية لقانون الغذاء وتقدير المخاطر يجب التأكيد على الاستقلالية وعلى الطريقة الشفافة لتوفـر المعلومات والمدلولات العلمية. بالاضافة الى ضرورة تحديد مكونات السلع على ملصقات بشكل واضح ومراقبة مدى تقيد المنتج بما هو معلن على ملصقات العبوات. على ان يتم توفير المعلومات عن طريقة الانتاج والمكونات لكل طالب معلومات من الجهات الرسمية وغير الرسمية.

مبدأ الاحتراس

في كل عمليات التقييم للغذاء، لا سيما الاغذية الجديدة التي لم يتم اختبارها او تلك التي ليس هناك مختبرات مجهزة بعد لاختبارها، يفترض ان يطبق «مبدأ الاحتراس» وان يمنع ادخالها او انتاجها وتسويقها.
كما تستدعي سلامة الغذاء وحماية المستهلك وجود مؤسسات غير حكومية، منظمات متخصصة ومراكز ابحاث وكليات جامعية… يفترض حماية دورها المراقب في القوانين وتأمين حقها بالحصول على المعلومات والوصول اليها سواء عند المنتجين او المسوقين او عند الاجهزة الرسمية المعنية.

والتأكد من مدى عدالة القوانين العابرة للحدود لا سيما تلك المتعلقة بالتجارة الدولية ومطالب تحريرها من أي قيد. وضمان موافقة مسبقة من البلدان المستوردة للاغذية وحماية المحاصيل الوطنية والتقليدية.
كما هناك ضرورة لدعم المنشورات العلمية والتقنية المتعلقة بصناعة الغذاء والتغذية السليمة التي يمكن ان تنتجها الوزارات المختصة او الجمعيات الاهلية المختصة. ودعم البحث العلمي ذات الصلة.
والحرص على ان تحصل بعض المضافات التي تستخدم لتحسين الانتاج النباتي والحيواني كالمبيدات السامة والمخصبات والمضادات والمغذيات ومواد التنظيف والتعقيم والادوات المستخدمة لتأمين شروط سلامة العاملين… الى تراخيص مسبقة وان تخضع لاختبارات للتأكد من المواصفات وان يتم التنبه والتوعية لطرق الاستخدام ومراقبة حسن الاستعمال لناحية المقادير وتوقيت الاستخدام.
كما يفترض ان يحدد القانون نظاما لتبادل المعلومات بين الوزارات المعنية بالاضافة الى وضع شروط لتعيين اللجان العلمية والقانونية التي يفترض ان تشرف على حسن تطبيق قانون الغذاء وتحديد مهماتها وضمان استقلاليتها وطرق اتخاذها للقرارات.

كما يجب ان تمول هذه الهيئة العلمية من الميزانية العامة للدولة. وعلى اللجنة ان تضع نظم التتبع لدورة حياة الغذاء وان تعنى بمتابعة ومراقبة سلسلة الغذاء كلها.

تتبع السلسلة

اثبتت أزمة الغذاء الحديثة الحاجة لوضع نظام متطور وموسع وسريع ليغطي الغذاء والتغذية. كما اثبتت حوادث سلامة الغذاء الحديثة الحاجة لإنشاء مقاييس مناسبة في احوال طارئة بان كل الأطعمة بصرف النظر عن نوعها ومنشئها، يجب أن تكون موضع مقاييس عادية في حال تسببت بمخاطر جدية لصحة الإنسان، او الحيوان أو لها تأثير في البيئة.

ويفـترض بقـانون الغذاء ان يطبق على كل درجات الإنتاج، توضيب وتوزيع الغذاء وطرق التخزين. ومراقبة مراحل الإنتاج والتحضير والتوزيع، أي الاستيراد والانتاج الأولي للطعام لحين تخزينه ونقله وبيعه وتموينه للمستهلك النهائي. ويقصد بـ«الانتاج الأولي» المحصول أكان مربّى أو مُختضنا أو ناميا على مواد أولية، بما فيها المحاصيل، الحليب، وحيوانات المزارع قبل ذبحها. وتشمل ايضاً عمليات الصيد لا سيما صيد السمك وجني المحاصيل البرية.

متطلبات السلامة

الغذاء يجب الا يعرض في الأسواق اذا كان غير سليم. والغذاء يعتبر غير سليم: اذا كان مضراً بالصحة. وغير مناسب للاستهلاك البشري.

اما في تحديد اذا كان الغذاء غير سليم فيؤخذ بالاعتبار الحالات العادية في استعمال الغذاء من قبل المستهلك وفي كل حالة في الانتاج والتحضير والتوزيع.

وبالمعلومات المعطاة للمستهلك بما فيها المعلومات المدرجة على الملصقات أو أي معلومات متوفرة للمستهلك لتشمل تجنب ردات الفعل المضرّة بالصحة والناتجة عن أي صنف معين أو أصناف من الأطعمة.

اما لناحية تحديد اذا كان أي طعام مُضـّرا بالصحة فعلينا أن نأخذ في الحسبان: ليس فقط اذا سبّب ضرراً سريعاً بعد فترة قصيرة أو فترة طويلة على صحة الانسان الذي تناوله انما على الأجيال اللاحقة ايضا، وذلك لاحتمال تجمع الرواسب السامة والتي تظهر لاحقاً.

 

حبيب معلوف

اترك تعليقاً

الرجاء إدخال تعليقك!
الرجاء إدخال الاسم هنا