تلعب الكيمياء دورا رئيسيا في تطوير التقنيات والمنتجات المبتكرة المساهمة في النمو الاقتصادي ورفاه الإنسان، في المقابل تدفع البيئة وبشكل متزايد ثمنا باهظا بفعل الآثار السلبية للمواد الكيميائية المصنعة، وهذا الوجه القاتم لأهم المجالات العلمية والصناعية في العصر الحديث دفع الباحثين في المجال إلى وضع أسس وقواعد لتيار جديد وواعد في علم الكيمياء للحد من المخاطر الناتجة عن الصناعات الكيمائية.

في العام 2005، تسلم جائزة نوبل في الكيمياء ثلاثة علماء -أميركيان وفرنسي- لتطويرهم تقنية جديدة للتفاعل الكيميائي تسمى “تفاعل التبادل”، لها تطبيقات واسعة في الصناعة الكيميائية وتستخدم طاقة أقل بكثير وقدرة على خفض انبعاثات الغازات الدفيئة للعديد من العمليات الرئيسية.

وقد اعتبر المتخصصون هذا تتويجا لفرع جديد من الكيمياء ظهر في بداية التسعينيات من القرن الماضي ويطلق عليه “الكيمياء الخضراء” أو الكيمياء المستدامة، يهدف إلى تطوير ممارسات كيميائية تحمي البيئة والإنسان من الأضرار المحتملة للمنتجات الكيميائية وتقلل من استخدام وإنتاج المواد الخطرة.

مبادئ الكيمياء الخضراء

لكن ما الكيمياء الخضراء؟ إجابة عن هذا السؤال وضع الكيميائيان الأميركيان بول أنستاس وجون وارنر في كتاب “الكيمياء الخضراء النظرية والتطبيقات” 12 مبدأ هي عبارة عن شروط يجب استيفاؤها لكي تكون الكيمياء “خضراء”. من بين هذه المبادئ ضرورة اعتماد طرائق تصنيع لا ينتج عنها مواد شديدة السمية للإنسان والكائنات الحية الأخرى والحد من المخلفات الكيميائية التي تتجاوز كتلتها في بعض عمليات التصنيع التقليدية مئات أضعاف حجم المنتج نفسه.

فعلى سبيل المثال وحسب دراسة أنجزت عام 2003 يتطلب صنع شريحة حاسوب واحدة إلى مواد يصل حجمها 630 مرة لحجم الشريحة نفسها، أما السيارات فهي تتطلب ضعف وزنها من المواد المختلفة.

ومن مبادئ الكيمياء الخضراء كذلك استخدام موارد أولية قابلة للتجديد والتقليل من الاعتماد على الموارد غير المتجددة كالنفط مثلا، مع الحرص على أن تجري عمليات التصنيع في درجة الحرارة والضغط العاديين للتخفيف من استهلاك الطاقة.

كما يجب أن تكون المواد الكيميائية المصنعة قابلة للتحلل بسهولة بتأثير العوامل الطبيعية إلى مركبات غير ضارة بالبيئة لمنع تحول هذه المواد المصنعة إلى ملوثات للبيئة كما هو الحال بالنسبة للمنتجات البلاستيكية التي أدى تراكمها نتيجة بطء تحللها إلى أضرار بيئية جسيمة لم تسلم منها المحيطات، وتمثل خطرا على الكائنات الحية تمتد آثاره على مدى عشرات السنين.

تطبيقات

وتطبيقا لمبادئ الكيمياء الخضراء وبهدف الحد من إنتاج النفايات واستنزاف الموارد الطبيعية والحفاظ على بيئة سليمة، توصل الباحثون إلى تصميم طرائق تصنيع جديدة تستجيب لهذه الشروط.

من ذلك، إيجاد بديل طبيعي للبوليمرات المستخلصة من منتجات النفط المستعملة على نطاق واسع لإنتاج مواد ضارة بالبيئة وبصحة الإنسان كأكياس البلاستيك، وهي بوليمرات متعدد السكريات (متعدد السكاريد) التي يمكن استخلاصها من البطاطس والحبوب وكثير من النباتات، وستمكن هذه البوليميرات الطبيعية من تصنيع مواد قابلة للتحلل دون أن تلحق أضرارا بالبيئة.

ولتصنيع المواد الملونة للأطعمة والمنكهة لها، طور الباحثون تقنية جديدة تعتمد على مادة الجلوكوز المستخلصة من النشا لتعويض المواد الكيميائية المستعملة حاليا على نطاق واسع التي لا تخلو من مخاطر على صحة البشر فضلا عن أن عملية تصنيعها تولد كثيرا من المواد الملوثة.

وابتكر الباحثون في مجال الكيمياء الخضراء تقنيات جديدة لإجراء التفاعلات الكيميائية منها تقنية استعمال الموجات فوق الصوتية في التصنيع الكيميائي، وهذه التقنية تعمل على تحقيق مبدأ اقتصاد الذرَّات وتحفز التفاعل ليتم في وقت قصير ويكون مردوده عاليا بالمقارنة مع الطرق التقليدية.

كما تعتبر تقنية استعمال غاز ثاني أكسيد الكربون في حالة فوق الحرجة -وهي حالة متوسطة بين السوائل والغازات- كمذيب من التقنيات الواعدة في مجال الكيمياء المستدامة، وتتيح هذه التقنية الرفع من مردود التفاعلات وخفض كميات المواد الكيميائية المستغلة في الصناعات الكيميائية وصناعة الأقمشة إضافة إلى خفض الموارد الطبيعية المستهلكة في هذه الصناعات.

وقد أعلنت مؤخرا شركة “نايك” العالمية لصناعة الأحذية والملابس اعتمادها على غاز ثاني أكسيد الكربون في حالة فوق الحرجة كمذيب في عمليات صبغ الأقمشة بأحد مصانعها في تايوان، وستوفر هذه التقنية حسب الشركة كميات كبيرة من الماء تقدر بـ150 لترا من الماء كانت تستهلك لصناعة قميص واحد.

وتعكف مراكز البحوث من ناحيتها على استنباط تقنيات علمية جديدة تساعد على تصنيع منتجات استهلاكية دون إلحاق ضرر بالبيئة، وقد ظهر في العقد الماضي كثير من المجلات العلمية المتخصصة في مجال الكيمياء الخضراء لتشجيع الباحثين على الإنتاج العلمي في هذا المجال.

ولكن تبقى الكلفة العالية أحيانا لبعض هذه التقنيات هي العائق الأساسي أمام تصنيع المواد البديلة على الأقل في المرحلة الحالية، لكن مسألة المحافظة على الموارد الطبيعية والحفاظ على بيئة نظيفة أصبحت محل اهتمام متزايد سواء لدى الشعوب أو الحكومات وستدفع باتجاه اعتماد هذه التقنيات في المستقبل.

فهل ستنجح الكيمياء الخضراء في إصلاح ما أفسدته الكيمياء الصناعية طوال أكثر من قرن؟

الصغير الغربي –  إعلامي تونسي متخصص في الشؤون العلمية.
المصدر: الجزيرة نت

اترك تعليقاً

الرجاء إدخال تعليقك!
الرجاء إدخال الاسم هنا