على مدى عشر سنين، شخّصَت تقارير المنتدى العربي للبيئة والتنمية (أفد) وضع البيئة العربية من جميع جوانبه، واقترحت حلولاً ساهمت في تطوير السياسات البيئية في المنطقة.

وجاء اعتماد أهداف التنمية المستدامة وإقرار اتفاقية باريس المناخية عام 2015 بمثابة نقطة تحوُّل في العمل الإنمائي الدولي. فقد تم للمرة الأولى تحديد إطار زمني لتحقيق 17 هدفاً تدمج الأبعاد الاقتصادية والاجتماعية والبيئية في بوتقة متكاملة. ووضعت اتفاقية باريس خريطة طريق لمواجهة تغير المناخ، أبرز معالمها الانتقال إلى اقتصاد خالٍ من الانبعاثات الكربونية قبل سنة 2050.

تحقيق أهداف التنمية والانخراط في المساعي الدولية لرعاية البيئة ومواجهة آثار التغيّر المناخي تتطلب أولاً سياسات وخططاً ملائمة. لكن التنفيذ يستدعي، في نهاية المطاف، إيجاد مصادر التمويل المناسبة. هذا ما يحاول تقرير “أفد” الحادي عشر، عن “تمويل التنمية المستدامة في البلدان العربية”، التصدي له.

دعا “أفد” في تقاريره وتوصياته إلى نموذج تنموي متجذر في اقتصاد أخضر، يقوم على إعطاء وزن متساو للتنمية الاقتصادية والعدالة الاجتماعية والاستدامة البيئية. فتلبية هذه الأهداف الثلاثة يوفر أساساً سليماً لمعالجة نواقص الاقتصادات العربية، من تخفيف الفقر والبطالة، إلى تحقيق أمن غذائي ومائي وطاقوي، إلى توزيع أكثر عدالةً للمداخيل. إلى ذلك، يركز الاقتصاد الأخضر على الاستعمال والتوزيع العادلَين للأصول الطبيعية من أجل تنويع الاقتصاد، وهذا يوفر مناعة في وجه تقلبات الاقتصاد العالمي.

يمكن فهم التوترات العامة التي تسببها نماذج التنمية العربية الراهنة من خلال تفحص بعض المؤشرات. فالفقر يهيمن على مئة مليون نسمة في البلدان العربية. وانعدام الأمن الاقتصادي يتفاقم مع ارتفاع مقلق لمعدلات البطالة التي بلغت 15 في المئة من السكان، وهي تصل إلى 30 في المئة في صفوف الشباب. ولن تتمكن الاقتصادات العربية، وفق هيكليتها الحالية، من خلق 50 مليون وظيفة جديدة يُتوقع أن تكون مطلوبة بحلول سنة 2020.

ما هي أبرز التحديات البيئية في العالم العربي، وكيف يمكن تمويل البرامج الضرورية لمعالجتها؟

تواجه الموارد المائية أزمة حادة في معظم البلدان العربية، مدفوعة غالباً بسياسات تشجع على الإفراط في الاستهلاك وتجيز المبالغة في استغلال الموارد المائية الشحيحة المتوافرة. وفي البلدان العربية اليوم أكثر من 45 مليون نسمة يفتقرون إلى مياه نظيفة وخدمات صحية مأمونة، وهم يمثلون نحو 10 في المئة من عدد السكان.

ويشكل الأمن الغذائي تهديداً كبيراً آخر، يدفعه بشكل رئيسي إهمال القطاع الزراعي وتخلفه، الأمر الذي يؤدي إلى سوء الإنتاجية الزراعية وانخفاض كفاءة الري وتدهور الأراضي المنتجة. وقد بلغت الفجوة الغذائية العربية نحو 40 بليون دولار سنوياً، مع ازدياد الوضع سوءاً بسبب تأثيرات تغيّر المناخ والحروب والنزاعات.

ويفتقر نحو 60 مليون نسمة في البلدان العربية إلى خدمات طاقة حديثة، ما يحد من الفرص المتاحة لهم لتحسين مستويات معيشتهم. وتُعتبر اقتصادات عربية عدة من بين الأقل كفاية والأكثر تلويثاً حول العالم في مجالات الطاقة.

وقد ركزت سياسات النقل في البلدان العربية على إنشاء المزيد من الطرق بدلاً من النقل العام الجماعي، والتخطيط المديني الذي يجمع بين مواقع السكن والعمل والتعليم والترفيه، ما يقلل من الحاجة إلى الانتقال مسافات طويلة. وأدى غياب سياسات فعالة في قطاع النقل إلى زحمات سير خانقة في المراكز الحضرية، وسوء نوعية الهواء في كثير من المدن، وتدهور الأراضي.

يتطلب التحول إلى اقتصاد أخضر مراجعة السياسات الحكومية وإعادة تصميمها لتحفيز تحولات في أنماط الإنتاج والاستهلاك والاستثمار. ومن المتوقع أن يحقق التحول إلى الممارسات الزراعية المستدامة وُفورات في البلدان العربية تراوح بين 5 و6 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي، أي ما مقداره نحو 100 بليون دولار سنوياً، نتيجة ازدياد الإنتاجية المائية وتحسين الصحة العامة وحماية أفضل للموارد. وعلى البلدان العربية أن تركز على سياسات تضبط وتنظم الوصول إلى المياه، وتعزز كفاءة الري، وتمنع التلوث. ويجب العمل على زيادة نسبة مياه الصرف المعالجة من 60 في المئة حالياً إلى ما بين 90 – 100 في المئة، كما يجب زيادة نسبة المياه المعالجة التي يعاد استخدامها من 20 في المئة حالياً إلى مئة في المئة. ولا بد من تطوير تكنولوجيات جديدة للتحلية محلياً، خاصة باستخدام الطاقة الشمسية.

بالنسبة إلى قطاع الطاقة، هناك حاجة إلى استثمارات مستدامة في مجالات الكفاءة وفي مصادر الطاقة المتجددة، من خلال الجمع بين المقاييس التنظيمية والحوافز الاقتصادية. وإذا انخفض معدل الاستهلاك الفردي السنوي للكهرباء في البلدان العربية إلى المعدل العالمي، من خلال إجراءات كفاءة الطاقة، فسوف يولد ذلك وفورات في استهلاك الكهرباء يقدَّر أن تصل إلى 73 بليون دولار سنوياً. وإذا خفض دعم أسعار الطاقة بنسبة 25 في المئة، فسوف يحرر ذلك أكثر من 100 بليون دولار خلال مدة ثلاث سنوات، وهذا مبلغ يمكن تحويله لتمويل الانتقال إلى مصادر الطاقة النظيفة.

الوصول إلى هذه النتائج يحتاج إلى استثمارات ضخمة. فتحقيق المحتوى البيئي لأهداف التنمية المستدامة في البلدان العربية يتطلب 230 بليون دولار سنوياً. وقد وجد تقرير “أفد” أن الفجوة التمويلية في الدول العربية التي تعاني عجزاً تصل إلى 100 بليون دولار، مع مجموع تراكمي يتجاوز 1.5 تريليون دولار حتى سنة 2030. فمن أين يأتي التمويل؟ ليس كل التمويل المطلوب مبالغ إضافية جديدة. فقسم كبير منه يأتي من وضع حد للهدر وتحويل جزء من الالتزامات المالية التقليدية في الموازانات الحالية إلى مشاريع تدعم أهداف التنمية المستدامة. لكن هذا لا يكفي، إذ تبقى الحاجة ملحّة إلى مبالغ كبيرة جديدة.

لن تستطيع الحكومات وحدها تأمين آلاف البلايين المطلوبة لتمويل التنمية المستدامة. لذا فمن الضروري استقطاب مساهمات صناديق تمويل التنمية العربية والدولية والقطاع الخاص. وهذا يحتاج إلى سياسات وتدابير تنظيمية ومالية تقوم على الشفافية والاستقرار التشريعي، ما يخلق الأرضية الملائمة لجذب الاستثمارات. كما أن تشجيع القطاع المصرفي على تمويل مشاريع التنمية المستدامة، التي قد تحمل مخاطر أعلى ويتطلب سداد ديونها فترات أطول، يتطلب حوافز من الحكومات والبنوك المركزية والمؤسسات الدولية المعنية بالتمويل والتنمية. وهذا يكون عن طريق المشاركة في المخاطر ومنح تسهيلات للمصارف التجارية، خاصة في مجالات تمويل برامج المياه وإنتاج الغذاء والطاقة المستدامة.

إن خلق بيئة ملائمة للاستثمار وتوفير الثقة في خطط التنمية الوطنية وآلياتها، تحت راية القانون والعدالة والاستقرار السياسي، شرطان ضروريان لتحقيق أهداف التنمية المستدامة كما نصت عليها أجندة 2030.

نجيب صعب
مجلة البيئة والتنمية
تشرين الثاني-كانون الأول (نوفمبر-ديسمبر) 2018 / عدد 248-249

اترك تعليقاً

الرجاء إدخال تعليقك!
الرجاء إدخال الاسم هنا