زاهر هاشم

تزايدت الحاجة في السنوات الأخيرة إلى الحلول القائمة على الطبيعة لمواجهة تداعيات تغير المناخ، وذلك في ظل ما تشهده المناطق الحضرية من زيادة في عدد الفيضانات المدمرة نتيجة هطول أمطار غزيرة تزداد وتيرتها مع تسارع تغير المناخ.

فقد قال تقرير حديث للجنة الحكومية الدولية المعنية بتغير المناخ (IPCC) إن نحو 700 مليون شخص يعيشون في مناطق زادت فيها معدلات هطول الأمطار الغزيرة، ومن المتوقع زيادة هذا العدد مع استمرار ارتفاع درجات الحرارة العالمية.

وتقلل المدن الإسفنجية من مخاطر هذه الفيضانات، حين توفر المدينة مساحات أكثر نفاذية للاحتفاظ الطبيعي بالمياه وترشيحها، وزيادة القدرة على التعامل مع الفيضانات والأمطار الغزيرة.

ما هي المدن الإسفنجية؟

يُستخدم مصطلح “المدن الإسفنجية” لوصف المدن والمناطق الحضرية ذات المساحات الطبيعية الوفيرة مثل الأشجار والبحيرات والمتنزهات أو غيرها من البنى والتصميمات التي تهدف إلى امتصاص مياه الأمطار والسيول وتجنب الآثار الكارثية للفيضانات والحفاظ على مياه الأمطار والاستفادة منها بشكل مستدام.

وصِيغ مصطلح “المدينة الإسفنجية” أول مرة في عام 2013 من قبل البروفيسور “كونغجيان يو” من جامعة بكين، للإشارة إلى نوع معين من المدن التي لا تعمل كنظام كتيم (أي لا ينفذ منه الماء) يمنع مياه الأمطار من الترشيح عبر الأرض، لكنها تشبه الإسفنج، إذ تمتص مياه الأمطار، والتي تصل بعد تصفيتها بشكل طبيعي بواسطة التربة إلى طبقة المياه الجوفية، حيث تُستخرج فيما بعد من خلال الآبار ومعالجتها لاستخدامها في تزويد المدينة بالمياه.

متطلبات المدن الإسفنجية

تحتاج المدن الإسفنجية إلى أن تكون غنية بالمساحات التي تسمح للمياه بالتسرب من خلالها، فبدلا من الخرسانة والأسفلت غير النفّاذين، تحتاج المدينة إلى المزيد من المساحات الخضراء المفتوحة والمتجاورة، وممرات مائية وقنوات مترابطة عبر الأحياء، والتي يمكنها احتجاز المياه وتصفيتها بشكل طبيعي. كما تساعد زراعة أسطح المباني على الاحتفاظ بمياه الأمطار قبل إعادة تدويرها أو إطلاقها في الأرض.

وتساعد التصميمات المسامية للطرق والأرصفة في جميع أنحاء المدينة على استيعاب حركة مرور السيارات والمشاة بشكل آمن عند هطول الأمطار الغزيرة، إذ تسمح هذه الطرق والأرصفة المسامية بامتصاص مياه الأمطار وتغذية المياه الجوفية منها، كما يساعد بناء أحواض التجميع وأنظمة احتجاز الجريان السطحي على إعادة توجيه مياه الأمطار إلى المساحات الخضراء لامتصاصها بشكل طبيعي.

وتحتاج المدن الإسفنجية أيضاً إلى ترشيد استهلاك المياه وإعادة تدوير المياه الرمادية على مستوى وحدات البناء، وتحفيز المستهلكين على توفير المياه من خلال زيادة حملات التوعية، وتحسين أنظمة المراقبة الذكية لتحديد التسربات والاستخدام غير الفعال للمياه.

أهمية المدن الإسفنجية

تساهم المدن الإسفنجية في حل قضايا رئيسية تعاني منها المدن والمناطق الحضرية وشبه الحضرية ومنها:

قلة الموارد المائية المتوفرة:
فقد أدى التوسع الحضري إلى تكوين آلاف الكيلومترات المربعة من المناطق الكتيمة المكونة من طرق وأرصفة وأسطح ومواقف سيارات، والتي لا تسمح بامتصاص المياه إلى الأرض، لكنها تقوم ببساطة بتجميع مياه الأمطار وتوجيهها إلى الأنهار أو البحيرات أو إلى البحر، وقد أدى هذا النوع التقليدي من التصميم إلى إنشاء مدن كتيمة بشكل متزايد ولها تأثير أكبر على دورة المياه الطبيعية، ويعني هذا من الناحية العملية أنه يسمح لكمية أقل من مياه الأمطار بالترشيح عبر التربة، وهو ما يعني نقصاً في إمدادات المياه المتاحة لاستخراجها من طبقات المياه الجوفية.

وتوفر المدن الإسفنجية المزيد من المياه النظيفة للمدينة من خلال تجديد المياه الجوفية، وزيادة حجم مياه الأمطار المصفاة بشكل طبيعي، وتحقيق قدر أكبر من الاكتفاء الذاتي من المياه، مما يسمح للمدن بالاعتماد بشكل متزايد على مصادر المياه من داخل حدودها.

تلوث المياه:
يتم تجميع مياه الأمطار ومياه الصرف الصحي في المدن بواسطة نظام صرف موحد، وتوجيهها إلى محطة معالجة حيث تتم معالجتها قبل تصريفها مرة أخرى في الأنهار أو البحار أو الاستفادة منها في سقاية الأشجار.

وعند سقوط أمطار غزيرة، في كثير من الأحيان لا تستطيع محطة معالجة مياه الصرف الصحي استيعاب كل المياه التي تستقبلها أنظمة التصريف في المدينة، لذا فإن الكثير من مياه الأمطار الممزوجة بمياه الصرف الصحي يتم تصريفها دون معالجة في الأنهار. وكلما كانت المدينة أكثر كتامة زادت كمية المياه المختلطة بمياه الصرف الصحي، ولن يكون بالإمكان معالجتها بكفاءة، وهذا ما يزيد من مستوى تلوث المسطحات المائية المحلية.

وتساعد المدن الإسفنجية على خفض الأعباء على شبكات الصرف الصحي ومحطات معالجة المياه والقنوات الصناعية والجداول الطبيعية، وينطوي هذا أيضاً على انخفاض تكاليف البنية التحتية للصرف والمعالجة.

تدهور النظم البيئية والصحية:
أدى التوسع في المدن وإنشاء المزيد من الكتل الإسمنتية والطرق الأسفلتية إلى خسارة كبيرة في التنوع البيولوجي الحضري، وتراجع المناطق الخضراء.

ويؤدي تراجع الغطاء النباتي في المدن إلى تراجع جودة الهواء وارتفاع مستويات التلوث فيها، وزيادة معدلات انجراف التربة، كما يؤدي إلى نقص امتصاص ثاني أكسيد الكربون المسؤول الأول عن ظاهرة تغير المناخ، وفقدان الموائل لأعداد كبيرة من الأنواع النباتية والحيوانية.

وتعمل المساحات والأسطح الخضراء في المدن والمناطق الحضرية على تحسين الصحة العامة والنفسية للسكان، وتعزيز النظم البيئية الحضرية، وتعزيز التنوع البيولوجي، وخلق فرص ثقافية وترفيهية، وعلى المدى الطويل ستعمل المدن الإسفنجية على تقليل انبعاثات الكربون وتساعد في مكافحة تغير المناخ.

زيادة شدة وتواتر الفيضانات:
مع الزيادة المتوقعة في الظواهر الجوية المتطرفة بسبب تغير المناخ، ومع انخفاض القدرة الاستيعابية للمساحات الحضرية، يزداد خطر فيضانات العواصف التي تلحق خسائر كبيرة في الأرواح والممتلكات، إضافة إلى تلويث المياه الجوفية وتهديد النظم البيئية والصحية، وتهجير السكان.

وتوفر المدينة الإسفنجية مساحات أكثر نفاذية للاحتفاظ الطبيعي بالمياه وترشيحها، ويؤدي هذا إلى تحسين القدرة على الصمود والتعامل بشكل أمثل مع مخاطر الفيضانات.

التجربة الصينية
تسعى الصين منذ فترة طويلة إلى تحسين الطريقة التي تتعامل بها مع الأحوال الجوية القاسية، وجعل المدن ذات الكثافة السكانية العالية أقل عرضة للفيضانات والجفاف.

وقد صُممت مبادرة “المدينة الإسفنجية” للاستفادة بشكل أكبر من الحلول القائمة على الطبيعة لتوزيع المياه بشكل أفضل وتحسين الصرف والتخزين. وتضمنت هذه الحلول استخدام الأسفلت النفّاذ، وبناء قنوات وبرك جديدة، وكذلك استعادة الأراضي الرطبة، الأمر الذي لن يؤدي فقط إلى تخفيف التشبع بالمياه، بل سيحسّن أيضاً من البيئة الحضرية.

وتشكل الفيضانات مشكلة كبيرة تؤثر على مناطق واسعة من جنوب الصين، بما في ذلك حوض نهر اليانغتسي وروافده، ففي يوليو/تموز 2021، واجهت مدينة تشنغتشو الصينية في مقاطعة خنان، أمطاراً غزيرة لم تشهدها منذ مئات السنين، وفيضانات مدمرة أدت إلى مقتل ما لا يقل عن 300 شخص وتشريد 1.24 مليون شخص.

واختارت الحكومة الصينية 16 مدينة تجريبية وخصصت لكل منها ما بين 55 و80 مليون دولار أميركي، لتنفيذ إستراتيجيات مبتكرة لإدارة المياه من شأنها أن تحوّل هذه المدن تدريجياً إلى “مدن إسفنجية”، من ضمنها مدن كبرى مثل ووهان وتشونغتشينغ وشيامن.

وتعد “حديقة كونلي لمياه الأمطار” التي تبلغ مساحتها 34 هكتاراً في مدينة هاربين بشمال الصين أحد الأمثلة على المدن الإسفنجية الناجحة، فهي تجمع مياه الأمطار وتنظفها وتخزنها، إضافة إلى دورها الهام في البيئة الطبيعية والحياة الفطرية، وتوفير مساحة عامة خضراء تعتبر مقصداً ترفيهياً جاذباً للسكان.

المصدر : الجزيرة

اترك تعليقاً

الرجاء إدخال تعليقك!
الرجاء إدخال الاسم هنا