في يقيني أن العلاقة بين القوانين وبين مواثيق الشرف هي علاقة تكامل في الأصل؛ لأن ما تنص عليه مواثيق الشرف يتعلق بالضمير الإنساني الذي يصعب التعامل معه قانونيا، كما قد تكون العلاقة بينها علاقة تنافس في أحيان أخرى؛ فما يؤطر بحكم القانون لا مجال للنص عليه بمواثيق الشرف. واتساع دائرة المواثيق هو انعكاس لمدى تحضر الشعوب؛ لأن السلوك الإنساني النابع من الخوف من عصا القانون، يختلف في طبيعته وديمومته عنه إذا كان صادرا عن التزام أخلاقي واستعداد داخلي.

إن الحفاظ على البيئة في الإمارات ليس رفاهية، بل ضرورة حياتية فرضتها علينا طبيعة البيئة التي نشأنا فيها، وهي بيئة صحراوية زرعت فينا قيمة النبتة مهما صغرت، وقيمة شربة الماء النظيفة ونسمة الهواء النقية، فمن عاش الهجير يعرف قيمة ظل الشجرة. ألم يمثل الرسول الكريم الدنيا بظل الشجرة حين قال: {مالي وَلِلدُّنْيَا ما مثلي وَمَثَلُ الدُّنْيَا إلا كَرَاكِبٍ سَارَ في يَوْمٍ صَائِفٍ فَاسْتَظَلَّ تَحْتَ شَجَرَةٍ سَاعَةً من نَهَارٍ ثُمَّ رَاحَ وَتَرَكَها}.

وعندما نقول إن لدينا ما يميزنا، فليس هذا محض فرقعات كلامية ولكنه واقع فعلي؛ فحين صارت الصحراء تنبض بالحياة، ألم يصبح ذلك واقعا؟ وقد كان أكثر المتفائلين يحسبونه مجرد آمال تحلق بعيدا في خيالات قادة حالمين، سوف يستيقظون على وقع اصطدامها بجبال عاتية، تقف دون مد طرق أضحت هي الأحدث عالميا، أو أرض عطشى تضن بمياهها على ما يتطلعون إليه، حتى صار البساط الأخضر أينما تولي وجهك في دولتنا، بمدنها التي دخلت في نادي الأكثر حفاظا على البيئة.

أقول هذا بعد أن اطلعت على أول ميثاق شرف بيئي نسائي في العالم، للأمان البيئي النسائي في الدولة، تطلقه جمعية النهضة النسائية في دبي، بالتعاون مع الجمعيات النسائية في دولة الإمارات، بمناسبة احتفال الدولة بيوم البيئة الوطني الخامس عشر، بعنوان “الصحراء تنبض بالحياة”، والذي يلزم كافة المواطنات في القطاعات النسائية في الدولة، بالحفاظ على بيئة سالمة وآمنة، وفقا للقوانين والتشريعات والأوامر والنظم المحلية الداعمة للمحافظة على البيئة في الدولة.

إن الأمان البيئي في خطورته وأهميته، لا يقل عن الأمان الغذائي أو الأمان بمعناه الشرطي، أوَليست البيئة كائنًا حيًّا يشعر ويستوعب ويتخلص مما يزعجه، ويظل حانيا على الإنسان وقادرا على مسامحته وتجاوز أخطائه والغفران له، فإذا ما تَجبّر بسلوكياته ونظر لمصالحه الآنية ومكاسبه الظاهرية، انقلبت عليه مستخدمة أسلحة لا طاقة له بها ردا عليه؟ وهنا يكون الغرم عظيما والخسائر يصعب حصرها أو تعويضها.

ورغم تقديري لكون أن هذا الميثاق أول ميثاق شرف بيئي نساني في العالم، يوضح أن المرأة في دولتنا قادرة على الطرح والمبادرة، وليست كمًّا مهملا بل هي جزء من هذا المجتمع تتفاعل مع قضاياه بإيجابية، إلا أنني لا أدري لماذا يأتي إلزام النساء فقط بهذا الميثاق؟ ولماذا اللائي يعملن في الجمعيات النسائية على وجه التحديد؟ لماذا يُضيّق ما هو واسع؟ أوَليست البيئة تسعنا ونستفيد من خيراتها جميعا؟ فلماذا يقتصر الالتزام الشرفي على قطاع دون آخر؟

كما أن الميثاق عندما ينص على أن المرأة الإماراتية هي حارسة لبيئة الإمارات، مسخّرة كافة الجهود لحمياتها فهي بالفعل كذلك؛ لأن البعد التربوي والسلوك البيئي السليم يخرج من البيت أولا، فلا يمكن أن تكون التربية البيئية على وجهها السليم دون الأم، فما تُقدم عليه من سلوك يعطي نموذجا وقدوة دون كثير كلام، وما يُقدم عليه الأبناء من سلوكيات هو حصاد ما تم زرعه في عالمهم وبيئتهم الصغيرة في حجمها، العظيمة في تأثيرها، وهي البيت كونه البداية الحقيقية، كما أنه العنوان الأكبر للتعامل مع البيئة؛ من خلال الحفاظ على جمال حدائقه، وبسط الخضرة في كل جوانبه.

والتفنن في نظافته وجمال صورته مهما كان بسيطا، وتحويل الإمارات إلى بيوت خضراء، وعدم الإسراف في استخدام الكهرباء وهدر المياه. وهو ما تم التأكيد عليه في نص الميثاق على دورهن في التعاون الكامل في غرس الثقافة البيئية في نفوس أبنائنا وبناتنا، وتوجيههم نحو حماية البيئة، والمساهمة الخالصة في تعزيز مفهوم حماية البيئة، وتثبيت ذلك في دواخل الناشئة والشباب والأطفال والفتيات، على أنها قيم أصيلة في حياتنا، وفقا لما حثت عليه قيمنا الإسلامية الأصيلة الفاضلة.

ولا شك أن الأخذ من نبع القيم الإسلامية بحر زاخر، يفيض بمكنون تعجز أمامه أعظم القيم الغربية التي صدعت رؤوسنا ليل نهار؛ لأن الحفاظ على البيئة عندنا دين وعبادة نتقرب بها إلى الله عزّ وجلّ، وليس مجرد سلوك حضاري نتباهى به بين الأمم. ألم يخبرنا الرسول الكريم صلّى الله عليه وسلّم بأن {إماطة الأذى عن الطريق صدقة}؟ لذا فإنني أقدر المسابقة الخيرة التي تجري فعالياتها الآن بين طلبة المؤسسات والجامعات، حول الحفاظ على البيئة في الشريعة الإسلامية، لكي نطلع أبناءنا على ما في أيديهم من خير ينشرونه بين الناس ولصالح البشر كافة.

لقد استوقفتني جوانب التفرد والتميز في الميثاق، والنظرة الشاملة لقضايا البيئة، باعتبار السلوك الغذائي السليم جزءًا من الحفاظ على البيئة، من خلال تناول الغذاء الصحي والطهي المنزلي، والحد من الأغذية والوجبات السريعة والمستوردة، وهي ما نعلم جميعا مدى أضرارها، كما أن الطعام ثقافة وهوية أمة. وهنا أذكر كيف أن أصوات الفرنسيين تعالت خوفا على أبنائهم، عندما وجدوهم يقبلون على الوجبات السريعة والأكلات غير الفرنسية الأصل، للدرجة التي رفضت فيها الحكومة الفرنسية السماح بإنشاء أية مطاعم أو محلات تجارية غير فرنسية في برج إيفل، مهما كان المردود المالي؛ باعتباره جزءًا من الثقافة الفرنسية التي يجب الحفاظ عليها. وهنا يتضح لنا ببساطة، مغزى أن يكون “البيرغر” أو “الكنتاكي” طعامًا لكل الناس بهذه الغزارة وليس أي طعام آخر؛ لأنه يتعدى كونه طعامًا، ويدخل في إطار التطبيع الثقافي.

كما أن الميثاق لم يقتصر على ما نعانيه من مشكلات بيئية محلية أو إقليمية ضيقة، رغم أهميتها وخطورتها وتأثيرها المباشر والآني، بل حلّق بنظرة مستقبلية بعيدة المدى، مشتبكا مع الهمّ العالمي في ما يتعلق بثقب الأوزون ومخاطره العديدة، وأهمية الحد من الانبعاثات الحرارية والأدخنة الفاسدة.

إنني أثمّن هذه المبادرة الحميدة من المرأة الإماراتية، التي جاءت متسقة مع تاريخها في البناء وتحمّل المسؤولية في تنمية وطننا، ومعظِّمة لدورها الذي لم يتوار يوما؛ لكونها شريكة رحلة الكفاح، لجعل التميز في دولتنا حالة لا حدود لها.

 

د. خالد الخاجة – البيان 

2 التعليقات

  1. السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته
    أشد على أيدي أخواتي الامراتيات وأتمنى لهن كل التوفيق وأضع رهن إشارتهن كل الخبرة التي نمتلكها في الموضوع.
    د نعيمة البالي
    استاذة القانون البيئي بالجامعة المغربية
    صاحبة كتاب : ” القانون البيئي”
    عضوة جمعية بيئية بمدينة وجدة المغربية

  2. أتنمى لكن أخواتي التوفيق، وأتمنى أن تقتدي المرأة في كل أنحاء العالم العربي بكن

اترك تعليقاً

الرجاء إدخال تعليقك!
الرجاء إدخال الاسم هنا