التصميم يملك ’التعبيرية الحضارية‘، لذا فهو أخطر من أن يُترك للمُصمِّمين وحدهم، كما يقول حامد الموصلي
لما اختارنا العمل في قرية القايات بصعيد مصر، وهي واحدة من أفقر قرى محافظة المنيا هناك، وتتميز بوفرة النخيل، اتجه مشروعنا إلى تصنيع الأثاث العصري من جريد النخل بديلاً للأخشاب المستوردة.

عند المقارنة نجد أنه يجري الحصول على الأخشاب بقطع الأشجار في الغابات، ما يُمثل تكلفة بيئية باهظة، ثم تصنيعها في صورة ألواح، ثم نقلها عشرات آلاف الكيلومترات إلى مصر، في حين أننا حصلنا على الجريد من خلال خدمة النخيل بتقليمه ثم تجهيزه في القرية نفسها؛ أي أن المسافة التي يقطعها جريد النخيل من النخلة حتى البدء في تصنيعه لا تتجاوز عدة كيلومترات، أو عشرات الكيلومترات حيث التجميع النهائي والتشطيب في العاصمة القاهرة.

من منظور دورة الحياة، فإن استخدام جريد النخيل في تصنيع الأثاث يمثل إحدى مراحل التعامل معه -أو قل حياة من حيواته- بين مرحلة الوظيفة الإيكولوجية وهو على النخلة ومرحلة استخدامه في تسليح البوليمرات أو العلف أو السماد.

المهم أنه جرى التفاعل مع مجموعة من المصممين راهنوا على تفرد جريد النخيل وجمالياته كمورد نَحوزه بكثرة في إقليمنا، وبالتالي يقع على عاتقنا أن نكتشف إمكاناته الذاتية في التصنيع، وأن نطوِّع هذه الإمكانات لإنتاج قطع أثاث عصرية.

ولقد أدى ذاك التفاعل إلى تغيير جذري في تعامل فريق العمل التقني، فاتجه إلى استخدام ألواح من سدائب جريد النخيل مباشرة لتصنيع قطع أثاث، لا طبقة حشو داخل ألواح الكونتر كما كان معتادًا، وبالفعل وُضع عدد من التصميمات قام أبناء قرية القايات بتصنيعها في قريتهم بمعدات صُممت وصُنعت محليًّا.

الشاهد في المثال المذكور، أن ثمة مفهومًا جديدًا للتصميم يقابل فهمًا شائعًا له. والفهم الشائع للتصميم أنه نشاط يجري في إطار علاقة بين طرفين: أحدهما المستهلك، الذي يحتاج- أو يتصور أنه يحتاج إلى سلعة ما سواء كانت منتَجًا أم مُنشَأ، والآخر هو المصمم -أو مكتب التصميم- الذي يُفترض أنه قادر على تلبية هذه الحاجة.

وفق ذلك الفهم، تبدو هذه العلاقة معزولة عن السياق الاجتماعي الحضاري البيئي، ولا تحكمها –فيما يبدو- إلا معايير وظيفة السلعة، والمظهر أو الجماليات، والسعر، وهي أيضًا علاقة قصيرة الأمد للغاية؛ إذ تنتهي في لحظة تسليم المنتج أو بيع السلعة.

المسؤولية البيئية للتصميم

بيد أن العلاقة المذكورة لا تتماشى مع المستقبل، وأعني بهذا أن المصمم يجب ألا يعمل وحده، بل يجب عليه العمل بصحبة أخصائي البيئة وعالِم المواد والمتخصص في المجال الاجتماعي.. إلخ، وأن تكون له علاقات تشابكية معهم؛ أي أن يعمل المصمم في إطار نسق يتأثر بالمشاركين معه، ويؤثر فيهم، دونما نسيان للوظيفة -أو الوظائف- التي يتوجب أن تؤديها السلعة، أو التضحية بها، وهذا هو المفهوم الجديد الذي ننشد انتشاره.

ذلك أن التصميم يوجب الاختيار والمفاضلة بين أمور عدة؛ فهو يتضمن اختيار المواد، هل تُستخدم في مكونات السلعة أو المنتج مواد غير متجددة كالألومنيوم أم مواد متجددة كالخشب؟ وكل اختيار له تكلفته البيئية.

على سبيل المثال: الطاقة الصافية اللازمة لتصنيع الألومنيوم تبلغ 64 ضعف تلك المطلوبة لتصنيع الخشب، لذا لا بد أن يكون قرار الاختيار واعيًا بتبعاته.

وبمثل ما يخفي التصميم وراءه اختيار عملية التصنيع، وما تتطلبه من طاقة، وما ينتج عنها من عوادم ونفايات وأشكال للتلوث البيئي، كذلك يخفي التكلفة البيئية المتمثلة في الطاقة المطلوبة لتشغيل السلعة أو المنتج النهائي واستعماله، والأمثلة كثيرة، ومنها الثلاجة والسخان، والحاسب الآلي والطابعة، وسائر الأجهزة المنزلية وأجهزة المكاتب.

والمسؤولية البيئية للتصميم تتضمن التعامل مع السلعة أو المنتج بعد نهاية مدة الاستخدام أو العمر الافتراضي لها، بمعنى هل سيجري التخلص منها لتجد طريقها إلى مقلب القمامة، أم يؤول مصيرها للاستعادة؟

يعني ما سبق أن مسؤولية التصميم تمتد عبر المراحل المختلفة لحياة السلعة أو المنتج من المهد إلى اللحد.

هكذا يحل محل مصطلح ’التصميم‘ مصطلح آخر هو ’التصميم البيئي‘، وهو يعني وفق أحد التعريفات الشائعة: ”ذلك النشاط الذي يؤدي إلى تضمين الاعتبارات البيئية في أساليب تصميم المنتج والعمليات الصناعية اللازمة لإنتاجه، ويستهدف التصميم البيئي تطوير منتجات وعمليات صناعية متوافقة مع البيئة، مع عدم الإخلال باعتبارات أداء وظيفة المنتج والسعر والجودة“.[1]

أبعاد اجتماعية وحضارية

إنني أرى تحيزًا اجتماعيًّا –في الوعي أو اللاوعي- وراء تصميم أي سلعة أو منتج، كأن يخاطب المنتج احتياجات المترفين القادرين على التعبير عن أنفسهم بوضوح كطلب سوقي، والقادرين على الضغط اقتصاديًّا وإعلاميًّا بهذا الطلب، غير آبهٍ لاحتياجات الفقراء، ولا منشغل بتلبيتها وإشباعها.

هناك احتياجات عديدة خفية لغير القادرين لا تستطيع أن تعبِّر عن نفسها من خلال قوى السوق، كما أن هناك طلبًا سوقيًّا للفقراء من سلع ومنتجات يختلف جذريًّا عن الطلب الخاص بالأغنياء والمترفين، لذا على التصميم أن يحدد اتجاهه أو توجهه لأي مجتمع ولأي طبقة منه.

كذلك ثمة تحيز اجتماعي آخر يتعلق بموقع النشاط الإنتاجي وطابع العمالة القائمة على تصنيع المنتج أو إنتاجه، وهنا يجري الاختيار أيضًا؛ أينحصر الإنتاج في الحضر؟ أم يتوزع بين الريف والحضر، بين القرية والمدينة؟ وعلى مستوى أكبر (الماكرو): هل يختار التصميم استيراد المكونات أم تصنيعها محليًّا؟

ثم هل تنحصر وظيفة المنتج فيما يستعمل له (الوظيفة الاستعمالية المباشرة) أم تتسع وظيفته لتشمل أبعادًا حضارية؟ بمعنى هل المنتج عاطل عن التعبير حضاريًّا؟ أم أن له قدرة على هذا؟ وهو ما أسميه ’التعبيرية الحضارية‘، بعبارة أخرى: هل يعبِّر التصميم عن قيم حضارية تنتقل للمستهلك بالنظر والاستعمال سواء بوعي أو بلا وعي؟

وبالعودة إلى مصطلح التصميم البيئي نجد أنه يقتضي التركيز على الإبداع بأن نتجاوز مستويات الإصلاح والتحسينات الجزئية إلى إعادة التصميم والتفكير، مما ينقل قضية التصميم البيئي من البعد التقني إلى البعد الحضاري.

إنني أقول إن النظرة المستقبلية ومبادئ التنمية المستدامة يقتضيان ألا يُترك التصميم للمصممين وحدهم؛ فهو أخطر من هذا، وإنني أتكلم عنه هنا كنشاط بدءًا من مستوى الفكرة فالرسومات التجميعية لها، والرسومات التفصيلية للمكونات، وصولاً إلى التصميم النهائي للسلعة أو المنتج.

 

SciDev.Net

اترك تعليقاً

الرجاء إدخال تعليقك!
الرجاء إدخال الاسم هنا