حكم عدد لا بأس به من ممتهني صناعة التنبؤ والتكهنات على الصناعة النفطية بالفشل والانقراض السريع أو الموت البطيء، في ضوء الانتقال إلى اقتصاد عصر طاقة جديد. حتى أن مسؤولًا في شركة “شل” النفطية الفرنسية تنبّأ بأن الطلب على النفط سيصل إلى ذروته خلال 15 عامًا أو أقل، وبعد ذلك تبدأ مرحلة التراجع والانهيار.

مبرر هذا التفكير هو التقدم التقني المستمر في قطاع السيارات الكهربائية، والسيارات التي تستمدّ الطاقة من خلايا الهيدروجين التي يتوقع البعض انها ستدمر أسواق النفط خلال 10 سنوات.

جدل مستمر

هناك من يعتقد أن الاحتياطات الهيدروكربونية ستبقى مخزونة تحت الأرض بسبب سياسات تتعلق بالتغير المناخي. وكثر حديث بعض المشككين إذ يقولون: “سمعنا سابقًا أن الطاقة النووية ستكون زهيدة جدًا إلى درجة أنه ليس اقتصاديًا تركيب عدادات لتسجيل كميات الطاقة المستهلكة”، وغير ذلك من التكهنات التي تعد بطاقة زهيدة وبتقدم تقني يحل مشكلاتنا نحن البشر بأقل تكلفة.

هذا الجدل مستمر حتى اليوم، حيث تناقلت وكالات الأنباء في الأيام والأسابيع الأخيرة تصريحات أوروبية تتعلق بحظر السيارات التي تستعمل المشتقات النفطية مثل الديزل والبنزين، بحلول عام 2040، ما يعني أننا أمام انخفاض حاد في الطلب على النفط.

يتركز التوجه الحالي على استعمال الكهرباء وبطاريات الهيدروجين والبدائل غير الهيدروكربونية لحماية الطبيعة من التلوث البيئي. من الواضح أن الخطة الأوروبية تقدم انذارًا مبكرًا لصانعي السيارات كي يبدأوا إنتاج السيارات البديلة. ويُعتقد أن تكلفة البطاريات ستنخفض، وهذا بدوره سيؤدي إلى ارتفاع الطلب على هذا النوع من السيارات. سيرافق هذا التوجه توفير بنية تحتية متكاملة لشحن البطاريات في المدن وعلى الطرق السريعة لتعميم الفائدة وتشجيع الاستعمال. ومع التطوير والتغلب على العراقيل، سيتراجع الطلب على النفط. هذا هو السيناريو المنتظر في هذه المرحلة.

طاقة بديلة عربية

ليس استعمال الطاقة النظيفة المتجددة حكرًا على أوروبا، حيث يتم الآن ضخ استثمارات ضخمة في هذا المجال في دول الخليج العربي. وتشير التقارير إلى أن الطاقة المتجددة ستحتاج إلى استثمارات تصل قيمتها إلى 200 مليار دولار.

سيزداد عدد مشروعات الطاقة المتجددة في السنوات الخمس المقبلة، حيث تسعى الحكومات إلى تلبية الطلب المتزايد على الطاقة، من خلال تنفيذ برامج طموحة.

ربما يستغرب بعضهم رغبة دول الشرق الأوسط في تطوير الطاقة المتجددة على الرغم من وجود احتياطات هيدروكربونية ضخمة تكفي عشرات السنين. لكن ثمة إجماعًا كونيا على أن الطاقة النظيفة المتجددة والمستدامة هي طاقة المستقبل.

تسير مشروعات الطاقة الشمسية على قدم وساق من المغرب العربي إلى الخليج العربي. ويستحوذ موضوع الطاقة النظيفة المستدامة على اهتمام الدول العربية حيث عقد أوائل هذا العام مؤتمر الطاقة العالمي في العاصمة الإماراتية أبو ظبي، وتناول ملف أسواق النفط ومساراتها، والمجازفة في الاستثمارات بعيدة المدى والتقنيات الحديثة وخسائرها المحتملة.

بدا أن ثمة اعتقادًا سائدًا في المؤتمر أن عصر النفط ربما يستمر عشرات السنوات، وربما حتى نهاية القرن الحالي، لكن من المهم النظر إلى المستقبل البعيد، أي إلى ما بعد مرحلة النفط. وهذا يحتاج إلى استثمارات مالية ضخمة وتطوير التقنيات والابتكار لتأمين مصادر طاقة آمنة، من دون إيذاء البيئة.

ووجه خالد الفالح، وزير الطاقة السعودي، كلمة إلى المشاركين في المؤتمر قائلًا: “على العالم أن يواجه التحديات الكبيرة، كالطلب المتزايد على الطاقة والتغيّر المناخي والاستفادة من الطاقة الشمسية والرياح. والطلب العالمي على الغاز والنفط سيستمر حتى عام 2050، وستؤدي الطاقة المتجددة والمستدامة دورًا كبيرًا في المزيج، أي طاقة تقليدية وطاقة متجددة، لذا من المهم الاستثمار في قطاعات النفط والغاز في المستقبل المنظور”.

أضاف: “علينا الاستمرار في بناء اقتصاد مستدام للأجيال المقبلة”.

تحذيرات ونبوءات

حذرت وكالة بلومبرغ المستثمرين في قطاعات النفط والغاز من مغبة تجاهل تأثير سياسات وقرارات تبني الطاقة البديلة في مستقبل الصناعة النفطية بشكل عام، ليس لأن الكهرباء ستحل محل البترول في المستقبل القريب. لكن الطلب على النفط لا يزال قويًا، خصوصًا أن سعر البرميل الآن أقل بنسبة 60 في المئة مما كان عليه قبل ثلاث سنوات.

لا شك في أن المستثمرين وممولي مشروعات النفط والغاز يشعرون بالقلق بسبب حال عدم الوضوح التي تخيّم على أجواء طلب النفط والغاز واستهلاكهما. وهذا يخلق ارتباكًا، ما يقلل الاستثمار في مشروعات الطاقة الهيدروكربونية التقليدية، وتحديدًا النفط.

كما هو معروف، يسعى المستثمرون في النفط إلى تحقيق عوائد مربحة على استثماراتهم من خلال التطوير التقني وتقليل تكاليف الإنتاج. لكن، مع كل إعلان أو تصريح عن حظر السيارات التي تشتغل بمشتقات النفط، ثمة نبوءات غير واقعية مفادها أن الصناعة النفطية تواجه الانقراض والموت المبكر، ما يعزز حال عدم الوضوح والارتباك. وهذا لا يقتصر على ترهات محللي المقاهي بقولهم “إن النفط انتهى ورحمة الله عليه”، بل يتجاوزهم إلى بعض وسائل الإعلام التقليدية.

سيناريوهات محتملة

من النتائج غير المقصودة والسيناريوات المحتملة لارتفاع الطلب على السيارات الكهربائية هي بقاء أسعار البترول زهيدة وجذابة، ما يُشجع كثيرين على الاستمرار في استعمال سيارات تعل على مشتقات النفط، لكن بكفاءة اقتصادية أعلى. السيناريو الآخر مفاده أن تقيلص الاستثمار في قطاع النفط والغاز يؤدي إلى نقص في الإمدادات، ما يرفع الأسعار خصوصًا بعد استهلاك الفائض النفطي في السوق.

تشجع هذه القرارات صانعي السيارات على تطوير سيارات أعلى كفاءة وأقل تلويثًا للبيئة. استجابت شركات مثل فولكسفاغن وبي أم دبليو وفولفو ونيسان وغيرها، وباشرت بصنع ما سمته “سيارات صديقة للبيئة”.

تتنبأ شركات كبرى، مثل “رويال دويتش شل” و”بريتيش بتروليوم” و”توتال”، أن يرتفع الطلب على الغاز الطبيعي بسبب رغبة العالم في الانتقال إلى مصادر طاقة نظيفة. وسيرتفع الطلب على الكهرباء لشحن البطاريات وإنتاج الكهرباء، وهذا يعني الحاجة إلى حرق المزيد من الغاز الطبيعي لإنتاجها. اما شركة “شل” فتتوقع أن يصل الطلب على النفط إلى ذروته خلال 15 عامًا، بينما تتوقع “بريتيش بيتروليوم” أن تكون هذه الذروة بين عامي 2040 و2050.

لن يستمر النفط إلى الأبد، ولا بد من وضع خطط واستراتيجيات للمستقبل البعيد، لضمان مصادر طاقة نظيفة متجددة وبسعر معقول، كي تستمر عجلة النمو الاقتصادي في العالم.

إيلاف – نهاد اسماعيل

اترك تعليقاً

الرجاء إدخال تعليقك!
الرجاء إدخال الاسم هنا