الربيع العربي، الذي بدأ في أوائل كانون الأول (ديسمبر)، احتل صدارة الأخبار العالمية. نأمل في أن يفتح الربيع العربي اتجاهاً جديداً نحو الاستدامة الاقتصادية والبيئية، مع أن التوقعات حالياً ليست جيدة لأي من هذين المجالين. لكن من المأمول أن تنصبّ الإصلاحات السياسية على الفساد الإداري وعلى سوء إدارة الموارد الطبيعية. ويتعين على الحكومات الأكثر تمثيلاً لشعوبها إبداء إرادة سياسية أقوى إزاء الإدارة المستدامة للموارد البيئية، من خلال سياسة عامة فعالة. فيكون للناس الأكثر تأثراً بهذه الأمور، وللمجتمع المدني، رأي ودور أقوى في تحديد القرارات السياسية. لذلك، يجب أن ننتظر أنظمة حكم أفضل عموماً، لكي ينسحب ذلك على الحوكمة البيئية. فعدم المساواة والاضطهاد والفقر هي في صلب الدمار البيئي. وكجزء من التحول، ننتظر أيضاً أن يكون المجتمع المدني أكثر تحرراً وفاعلية.

على رغم عائدات النفط الكبيرة التي تدرها الموارد البترولية، وتأثيراتها في البلدان المجاورة غير المنتجة للنفط، تعاني الاقتصادات العربية من مشاكل بنيوية ونظم سياسية هشة تعوقها عن تبني تحولات خضراء فعالة. وتبقى الاقتصادات العربية بلا تنوع، تعتمد في شكل كبير على النفط والغاز والمنتجات السلعية ذات القيمة المضافة المنخفضة مثل الإسمنت والأسمدة والفوسفات.

وتشكل التحولات الديموغرافية تحدياً كبيراً. فقد ازداد عدد سكان العالم العربي من 100 مليون نسمة عام 1960 الى نحو 400 مليون عام 2011، ستون في المئة منهم تحت سن الخامسة والعشرين. وازداد سكان المدن من 38 في المئة عام 1970 الى 65 في المئة عام 2010. لذلك، فإذا لم تصبح التنمية الريفية أولوية، فسنشهد المزيد من هجرة الأرياف الى المدن بحثاً عن وظائف، ما سيزيد الضغط على البنى التحتية غير الوافية أصلاً.

ماذا تعني هذه الأرقام؟

أنماط التنمية الاقتصادية الحالية سترهق في شكل متزايد قدرات الحكومات العربية على توفير وظائف بأجور لائقة. على سبيل المثال، البطالة التي يعاني منها الشباب في المنطقة هي حالياً ضعفا المعدل العالمي.

كما س يرتفع الطلب على الغذاء والمياه والسكن والتعليم والنقل والكهرباء والخدمات البلدية الأخرى. الطلب على الطاقة في السعودية مثلاً يرتفع بوتيرة سريعة تراوح بين 7 و8 في المئة سنوياً. والأراضي الزراعية حول عمّان والقاهرة ومدن عربية أخرى تتلاشى لمصلحة توسع الضواحي. وفيما تتكاثر مؤسسات التعليم العالي، فإن نوعية التعليم التي تقدمها هي أدنى من المعدل. وتنتشر الأحياء السكنية الفخمة المسورة وأبنية المكاتب الشاهقة، فيما لا يتوافر سكن لائق لذوي الدخل المحدود. وحتى عندما يكون التمويل متوافراً، لا تسلك الاستثمارات عادة الوجهة الصحيحة.

ويشكل الأمن الغذائي والمائي تهديداً كبيراً. فصانعو السياسة العرب يتلاعبون حالياً بالطلبات المتنافسة على الأمن الغذائي والاستدامة البيئية. الأمن الغذائي قضية تحركها النزاعات السياسية، وهو يهدف إلى زيادة إنتاج الغذاء في بلد ما إلى الحد الأقصى، على رغم أن ذلك يأتي عادة على حساب استنزاف موارد المياه الجوفية «المتحجّرة» التي لا تتجدّد. لكن البديل هو استيراد «مياه افتراضية»، ما يحسِّن الاستدامة لكن على حساب الأمن الغذائي. وإذا استمرت الاتجاهات الحالية، فلن يكون هناك خيار، لأن ندرة المياه والزيادة السكانية ستجعلان تحقيق الأمن الغذائي صعباً في شكل متزايد، حتى لو وجدت الإرادة السياسية القوية.

تقرير المنتدى العربي للبيئة والتنمية لعام 2010 وجد أن المنطقة العربية ستواجه نواقص مائية كارثية داهمة في وقت لا يتعدى عام 2015. وكان تقرير المنتدى لعام 2009 حذر من أن أثر تغير المناخ في المنطقة سيضاعف خطر حدوث شح مائي وغذائي. ومع ذلك فإن بعض البلدان العربية التي تملك أقل الموارد المائية العذبة المتجددة ما زالت تسجل أعلى معدلات الاستهلاك الفردي للمياه في العالم، في غياب تسعير عادل. كما أن كفاءة الري في المنطقة منخفضة جداً إذ لا تتجاوز 30 في المئة، غالباً لإنتاج محاصيل منخفضة القيمة الاقتصادية، بينما تتطلب كميات كبيرة من المياه. يجب تغيير الأنماط الزراعية وأنواع المحاصيل لإنتاج المزيد من الغذاء بمياه أقل، حتى لو أدى ذلك في النهاية إلى تغييرات جذرية في عادات الأكل، من الرز إلى لحم العجل. وعلى البلدان العربية أيضاً أن تبذل ما في وسعها لتخفيض الانبعاثات، من خلال كفاءة أكبر في الطاقة، واستخدام أنظف للنفط والغاز، واستغلال واسع للطاقة المتجددة.

نظراً إلى هذه التحديات، ليس التحول الى الاقتصاد الأخضر مجرد خيار للمنطقة العربية، بل هو التزام ضروري لتأمين مسار صحيح نحو تنمية مستدامة.

نحن نفهم الاقتصاد الأخضر على أنه وسيلة لإعادة التعهد والوفاء بالتزامات قمة ريو الأولى وبالأهداف الإنمائية للألفية، من أجل اجتثاث الفقر. تشكو البلدان النامية – وهي على حق – من أن البلدان الصناعية تخلفت عن الوفاء بالتعهدات التي قطعتها في ريو. فقد انخفضت المساعدات الإنمائية الرسمية بمقدار الثلث، لتبلغ أقل من 0,22 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي للبلدان الغنية، بعدما كانت 0,35 في المئة عام 1970، بدلاً من أن تزداد الى 0,7 في المئة وفق ما تم التعهد به. تجب مساعدة البلدان النامية كي تتبع أنماطاً بديلة ومستدامة للتنمية من دون أن تفرِّط بمواردها الوطنية وسيادتها.

لقد استفاد المنتدى العربي للبيئة والتنمية من وضعه كمنظمة إقليمية فريدة تجمع القطاع الخاص مع المجتمع المدني والمؤسسات الأكاديمية ووسائل الإعلام في العالم العربي، فضلاً عن المؤسسات الحكومية كأعضاء مراقبين، فأخذ زمام المبادرة للارتقاء بمفهوم الاقتصاد الأخضر ليكون أساساً لتحويل الاقتصادات العربية في اتجاه يتيح تحقيق تنمية مستدامة. بالنسبة الى المنتدى، هذا يعني تحولاً من «الاقتصاد الافتراضي» المبني أساساً على المضاربة في الأسواق العقارية والمالية، إلى «الاقتصاد الحقيقي» الذي يركز على الإنتاج المستدام ويمكنه وحده حماية الرأسمال الطبيعي وتوفير فرص عمل على المدى البعيد.

المرحلة الأولى من مبادرة الاقتصاد الأخضر التي أطلقها المنتدى ستنتج تقريراً شاملاً حول الاقتصاد الأخضر في عالم عربي متحول. ويعمل أكثر من مئة خبير على إعداد التقرير، ويعقدون سلسلة إجتماعات تشاورية ستفضي الى مؤتمر إقليمي في تشرين الأول (أكتوبر) 2011 لتقديم النتائج ومناقشتها. يهدف التقرير الى تحفيز ومساعدة الحكومات والشركات على إجراء تحول الى الاقتصاد الأخضر. وهو يبيِّن العناصر التي تتيح تحقيق هذا الهدف، من سياسات عامة ونماذج أعمال وفرص استثمارات خضراء ومناهج مبدعة ودراسات حالة. وسيعالج ثمانية قطاعات: الطاقة، المياه، الزراعة، النقل والمواصلات، المدن والعمارة الخضراء، السياحة، الصناعة، إدارة النفايات.

في مجال الطاقة، ندعم ترويج مصادر الطاقة المتجددة والاستعمال الأنظف للوقود الأحفوري، ما يتطلب نقلاً للتكنولوجيا. ولكن، كمنطقة نامية تعتمد إلى حد بعيد على النفط كمصدر للدخل، نحذر من فرض تعرفات جديدة في شكل انتقائي تحت ذريعة حماية البيئة، لأنها قد تعوق التنمية في المنطقة كلها. أما ريع التعرفات، إذا كانت ناجمة عن اهتمام بيئي حقيقي، فيجب تقاسمها بين المنتجين والمستهلكين، ورفدها بحوافز أخرى وسياسة واضحة وإطار تنظيمي. ويجب تخصيص العائدات لترقية الكفاءة ودعم تكنولوجيات الإنتاج الأنظف ومصادر الطاقة المتجددة.

خلال عقدين بعد ريو، أسست البلدان العربية وزارات بيئة، وسنّت قوانين، ووقعت اتفاقيات بيئية دولية رئيسة، وتعاونت مع هيئات دولية لتنفيذ مشاريع بيئية متنوعة. ومجتمعنا المدني يصبح، ببطء لكن بثبات، نشطاً وفعالاً في الأمور البيئية ويتمتع برؤية واضحة متزايدة.

لكن مرحلة ما بعد ريو تميزت بحلول جاهزة أسفرت عن مشاريع يتم تصميمها غالباً لتتلاءم مع متطلبات الهيئات المانحة والبيروقراطية الدولية، بدلاً من الاحتياجات الفعلية للمجتمعات المحلية. التحدي الذي نواجهه هو إعادة تصميم طريقة دعمنا للمجتمع المدني والمجموعات الأهلية، بحيث تتمكن من قيادة شعوبها الى مسار أقرب الى تحقيق الهدف. ولكن إذ ندرك أن المجتمع المدني لا يمكنه الحلول مكان الحكومات، يجب توجيه الجهود لإحداث تغييرات على مستوى السياسات الوطنية.

تتيح قمة ريو + 20 فرصة لاستخدام الاقتصاد الأخضر كوسيلة لتحقيق تنمية مستدامة. وكما أثبتت التطورات الأخيرة في البلدان العربية، لا يمكن أن تعتمد الاستدامة على خيار بين الحرية والاستقرار. والصحيح أيضاً أننا لا نستطيع كسب «حرب على الإرهاب» إذا أخفقنا في شنّ حرب بلا هوادة على الفقر والاضطهاد والظلم.

 

نجيب صعب

مجلة البيئة والتنمية

اترك تعليقاً

الرجاء إدخال تعليقك!
الرجاء إدخال الاسم هنا